تأملات في ديوان " بقايا انسان " للشاعرة كريمة دالياس (1)
حميد ركاطة
يحتفل ديوان الشاعرة كريمة دالياس بالحرية الإنسانية في أبهى مظاهرها وتجلياتها من خلال قصائد موجعة تبرز أنات الذات المبدعة تجاه قضايا معاصرة من خلال خطاب اكتسى نبرة احتجاجية ضد الفساد والقهر ، معلنة عن منظور ذاتي يمرر من خلال مواقف شعرية جادة
يحتوي الديوان الفائز بجائزة ناجي نعمان الأدبية سنة 2007 على عشرين قصيدة موزعة على واحد وستون صفحة من الحجم المتوسط مع تقديم ولوحة غلاف لم تتم الإشارة إلى صاحبهما .والديوان صادر عن دار التنوخي للنشر والتوزيع بالرباط سنة 2010 .كة وديوان شعري مشترك مطبوع ومسموع
وللإشارة حصلت الشاعرة على الجائزة الأولى في المهرجان الدولي الثالث للشعر والزجل بالبيضاء سنة 2008 وحاصلة على تكريم من الجمعية الدولية للمترجمين واللغويين العرب سنة 2008 ولها مجموعة قصصية مشترك ة ، وديوان شعري مشترك مطبوع ومسموع بعنوان " معارج الروح"
توزعت عناوين الديوان بين المطالبة بالحرية والسلام والطفولة في زمن الحرب ، وضياع الإنسان في مطاحن العنصرية من خلال قصيدة " أنا السجين " وخطاب الذات " الأنا" والانتماء والتغني بالثورة وتبجيل الاستشهاد في سبيل الحرية مع نبذ العنف . كما تضمنت العديد من القصائد تقديم عبارات عبارة عن مقتطفات من أقوال تشي غيفارا" التي تبرز خط كتابة الشاعرة التصاعدي للمطالبة بتحرير المستضعفين وكل المظلومين على وجه الأرض " لكل الناس وطن يعيشون فيه إلا نحن فلنا وطن يعيش فينا"
1) حوار الإنسان والحرية
يتحول الإنسان في قصائد الشاعرة كريمة دالياس إلى سارية لنسج معاني الحرية من خلال التغني نقائه وطهره ونبل قضاياه ، هذا الإنسان نفسه يتحول إلى عكس الصورة التي يتم رسمها له من خلال المساس بحريته التي تأخذ صورا رمزية رائعة حمامة بيضاء " ففي قصيدة حوار الإنسان والحرية " ص 11 نلمس هذا الطرح وقد تعرضت الحرية لطلقة مميتة تقول الشاعرة "
الحرية كانت الحرية ترفرف هنا
باهية النقاء
طلقات رصاص تمزق
أجواء السماء
ظلام دامس يطبق
على كل نداء
تناثر ريش الحمامة البيضاء
يا حسرة على من نزع
أوردة الوفاء "
إن هذا الحضور البارز سيجعل من العديد من قصائد هذا اليوان تتغنى بالسلام الذي لا تزهر ورده إلا في تربة الحرية لنستشف من خلال قصيدة " السلام " ص 15 ضياع هذا السلام بشكل متوازي مع ضياع الحرية "
السلام أصبح أنشودة
على الشفاه الشاحبة
تحجرت الدموع
في الأحداق الراهبة
(...) فلم تمطر عليهم
إلا وابل قنابل صائبة "
السلام في القصيدة يتحول إلى حزن وأسى وموت ودمار ، وخراب يحول الإنسان ذاته إلى مجرد بقايا ودمعة متحجرة في الأحداق.
إن الحسرة
والألم ميزتان سيطرتا على مضامين هذا الديوان ، بحيث تمثل الحيرة الضياع والألم والموت وهو موت متعدد ، بين الموت الحقيقي والموت الرمزي ، فالضياع هو ضياع في براثين القهر والحرمان بعد انطواء الخديعة على الإنسان تعمق جراحه كثيرا ، والموت الذي يتحول رمزيا إلىى موت الحرية تقول الشاعرة "
أنا الحرية
كانت الشمس في كفي
كان الوثاق يشد في كتفي
كان الميزان كفي الوافي
كان العدل وزني الصافي " ص 15
إن الحسرة بقدر ما تطيل زمن الألم والانتظار تجعل من الفجيعة قاسية جدا ، ومن الإنسان المهزوم بالقوة مجرد بقايا لإحساسه بالضعف والذهول وعدم القدرة على التحمل ، لتظل معادلة الانسان والحرية باستمرار السمة البارزة في تشكلها وتعدد صورها ، هذا التعدد يحول الموت القاسم المشترك ويجعل فاجعته متوقعة من طرف الجميع . تقول الشاعرة في نص بقايا إنسان" ص 17
أنا الطفل اليتيم المتعثر
يلعب في بركة ماء مكدر
ممزوج بنفط أسود ودم أحمر "
فتجنيح الشاعرة في هذا المقطع بقدر ما يشكل انتقادا وسخرية لمصدري الموت بالتقسيط في العالم تجعلهم في فقص الاتهام وهي تدينهم بما يتسببون فيه من موت بتقاعسهم عن نصرة قضايا إخوانهم كما تدين تواطؤهم الصامت من خلال تحويل عائدات النفط ضد قضايا الانسان العربي وحريته تقول "
أنا الحرية
أنا الطائر الجريح
اتعثر في مهب الريح
أشلائي بين قتيل وطريح
أشيائي بين معطوب وقريح " ص 17
فالعطب الذي يصيب الحرية هو الاغتصاب الذي يمارس عليها ، هو فعل شنيع ممارس في حق الإنسان الذي سيستعمل كمرادف للحرية :
أنا الإنسان = أنا الحرية /أنا الطفل اليتيم
المتعثر = أنا الطائر الجريح
إنها مقاربة شعرية بقدر ما تسعى إلى إبراز مفهوم الاغتصاب والحرمان تحاول إبراز دلالات جمالة لمعاني كثيرة ، تمس جوهرا مقدسا وحقا شرعيا تتم مصادرته .
في نص " أن السجين " ص 18 يبرز عامل القتل والقهر كوصمة عار على جبين الإنسانية وهي تمارس بوحشية وعنصرية قهرا جبارا بنوع من الهمجية ، إنسان ضد إنسان ، من خلال إبراز مفهوم الحرمان من الحبس تقول الشاعرة على لسان السجين "
أنا السجين
سلطان القهر يزمجرني بعقلية همجية
قتل وقهر يندى له جبين البشرية "
ما يبرز ضياع الإنسان بحبسه ظلما وقهره بالقوة وحرمانه .
إن التحول الذي تتخذه صورة الإنسان الظالم القاهر هي صورة تتعدى ممارسة الاعتداء الجسدي إلى ممارسة الإرهاب النفسي وهو أخطر أنواع الاعتداءات على حرية الآخر وكرامته تقول في قصيدة " الإنسان المرهب" ص 21
" أنا الإنسان
كنت أعيش كسائر الأيام
في أمان
هزتنا انفجارات
تقشعر لها الأبدان "
إن ممارس القتل العمد من أجل قضية زائفة أو تبعا لأهواء النفس هو ما يبخس الحرية والإنسان قيمتهما ويفرغهما من كنههما وعمقهما الإنساني ، ويحولهما لمجرد أشياء تافهة في نظر المعتدي الذي يحاكم النوايا والسرائر ما يبرز عمق الخبل الإنساني في مواجهة قضايا مصيرية بالإمكان التداول بشأنها ومناقشتها سلميا عوض اللجوء إلى القتل العمد من أجيل تأكيد ظنون أو شكوك ليس إلا . ممارسة تؤكد زيفا الادعاء والنزوع نحو القوة والإبادة ، والقتل ما يبرز تلاعبا واستخفافا وإثارة للفتنة والفساد . تقول الشاعرة"
يتلاعبون
بأرواح البشر
بأيديهم
يصنعون القدر
يعيثون الفساد
والكبر
يا لسخرية القدر " ص 22
إن المفارقة تعلو بصمتها للدلالة على العنف وهي تفرغ كل الادعاءات من مشروعيتها ما دام اختيارها هو الإبادة الجماعية من اجل فكرة أو موقف لا ينزع أصحابه نحو الحوار الحضاري بل نحو القتل الهمجي والوحشي .
2) الشعر والقضية
كغيرها من المبدعين والمبدعات تأبى الشاعرة كريمة دالياس إلا أن تستحضر قضايا عصرها الأكثر جدلا في التاريخ المعاصر كالاشارة إلى فضيحة سجن أبو غريب بالعراق أو قتل الشهيد الطفل محمد جمال الدرة، أو الإشارة إلى الحصار الجائر على فلسطين أو مناقشة مشكل اللاجئين ما يجعل الخطاب الشعري في مضمونه حافلا بالعديد من الإشارات إلى الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان العربي في مواجهة المد الامبريالي وفرض الوصاية عليه من طرف الغرب أو من طرف قوى إقليمية استمدت جبروتها من دعمه ومباركته .
ولعل ما يتعرض له الشعب الفلسطيني الأعزل في مواجهة المحتل الإسرائيلي من تقتيل وإبادة يبرز دور المقاومة وانتفاضة أطفال الحجارة التي حولت مجرى تاريخ المنطقة من المفاوضات السياسية إلى مواجهات يومية انبثث أبطالا تاريخيين وقدمت صورا واقعية وحولتها من دور الضحية إلى دور الجلاد . فقتل الطفل جمال محمد الدرة هو دلالة على الاستئصال العرقي والازاحة بالقوة للعنصر العربي من أرضه دون رحمة او شفقة لتظل صور مقتله دلالة على عنف دولة إسرائيل وهمجية جيشها الجبان تقول الشاعرة "
أنا الدرة
اقتنصتني أيادي الغدر النكل
انتشلتني من صدر أبي الأعزل
لم تشفع لي دموعي
ولا رجفات جسمي الأهزل" ص 29
اغتيال محمد جمال الدرة في نظر شاعرة الحرية كريمة دالياس ، هو اغتيال للحرية وللبراءة برصاص الاحتلال تقول "
أنا الحرية
صوت الرصاص يخنق أنفاسي
تعطلت دقات دقائق أجراسي
من يرد أشتاتي
وعزي لأغلى ناسي " ص 29
هذا التوازي الذي يعتبر الخط العام في كتابة قصائد هذا الديوان يعري ويف كل الأطروحات ويفرغها من محتواها الضمني الحافل بالعنف والموت والعنصرية الشنيعة .
في نص " أنا بوغريب" ص 43 بقدر ما يتحول المكان لدال على العنف الوحشي يبرز في ذات الآن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان بالعراق من طرف القوات المريكية التي حولت أعرق الحضارات إلى بقايا منسية تقول الشاعرة "
أنا بوغريب
عتقت من الكرامة والادمية
أحتسي من عصارة الأجساد
المكدسة المرمية
نخب الحضارة
ونخب الحرية " ص 43
فضيحة سجن بوغريب ابرزت سطوة الأمريكان وغطرستهم وزيف شعاراتهم وادعاءاتهم بحماية المواطن الأعزل وتحريره من قبضة الديكتاتورية أو مجنون من مجانين الحكم إلى إغراقهم البلاد في جحيم العنصرية من خلال ممارساتهم وطقوسهم الوحشية التي أبرزت بربرية لن تنساها البشرية وهو إعلان آخر ملموس عن موت الحرية وبالتالي موت إنسانية الإنسان ما جعلها لازمة تترد لأكثر من مرة وفي أكثر من قصيدة ( أنا السجين ص 18/ أما بوغريب ص 44/ خفافيش السراب ص 55/ تقول الشاعرة "
أنا الإنسان
عفوا بقايا إنسان
انطوت عليه خديعة الزمان
أمسكت خلف القضبان
أخشاب بين المطرقة والسندان
ضاع الإنسان
ضاع الإنسان"
وبقدر ما شكلت الحرية ومصادرتها للحريات السمة البارزة في قصائد ديوان الشاعرة كريمة دالياس ن لحضور القضايا العربية الأخرى الوجه البارز كقضية اللاجئين في نص " أنا لا جئ" ص 39 تبرز الشاعرة صرعا نفسيا للاجئين وفرارهم بأرواحهم من أجل الحياة في غمرة الحروب الطاحنة تقول "
لا جئ من الاحتضار
تعتريني هفوة سكوت الصبا
ومضات
ومضات تعبر أجنحة الظلام
وتتلاشى على أطراف ال...
أرواحنا ممزقة شلايا
على خرائب الجسد " ص 39
3) الأنا في قصائد كريمة دالياس
تتحدد "الأنا " في قصائد الشاعرة كريمة دالياس كصوت للآخر أو حديث عنه فالأنا هنا معكوسة بقدر ما تستقصي عوالم الذات والماهية تروم تصوير ما يخالج الآخر من الأم وتشريد وتيه ، والشاعرة تحول ذاتها إلى فضاء تقول عن الأنا "
أنا
ما هي الأنا ؟
ذلك بقايا طفل مشرد
مختفي المعالم
هائم صريع
بين حطام الجدار المتلاطم" ص 23 ذ
هذا الطرح يجسده كائنا حقيقيا مغلوبا على أمره يصارع من أجل الحياة تقول "
حافي القدمين
يلتقط فتات الخبز المعضن
من تحت الحطام المتصادم " ص23
إن الأنا بهذا المعنى هي معاناة الآخر التي تسربت إلى ذواتنا ، هي الصوت المندد المطالب دوما بالحرية والعدالة والمساواة والكرامة ، فالأنا هي الحرية المطلب الأول والأخير في هذه القصائد . ، والأنا كينونة هوية ، الأرض المحتلة التي تتكلم تتألم تحزن بما يحدث على أديمها ، هي الانتماء والوطن في قصائد أخرى .
في قصيدة أنا إبن الأرض السمراء تبرز إفريقيا بملامحها الغارقة في السغب والألم والمحن تقول "
أنا ابن الأرض السمراء
أقتات من أوراق الشجر
ومن بقايا طعام النمل
(..) أحضن صدر الأرض المتعطشة
لملامسة وجه المطر " ص 25
إن الصورة التي تقدمها الشاعرة عن إفريقيا من خلال الإعلان عن الانتماء بدء من عتبة النص هي في الواقع محاولة لإبراز الصوت الخفيض والمكسور للقارة السمراء من خلال أطفالها وإشارة إلى نضالها المستمر من أجل الحرية "
بذور الأرض الحبيبة
صامدة في وجه الثائر العابث
بألواح البش
بدور الحرية
تبحث عن معالم الحياة
بدور الحرة
تتخبط في جب المأساة" ص 26
إن هذه المطالبة تمر ر عبر تنديد وشجب للموت الذي تحول لوشاح يتسلل كالموت يفتك بالملايين من الأطفال .فالأنا هي الأخر وقد تحدثت في قصيدة تحمل نفس العنوان "أنا الآخر" ص 45 ليبرز طرحنا السابق وتجلي الذات الشاعرة في مرآة الأخر الذي بقدر ما تعكس مأساته وآلامه وجرحه تبرز القواسم المشتركة والانتماء واستمرار الألم تقول "
أتدحرج خلف قضبانه
الخفية المتحركة
ليخرج من مسام الجسد
عرق مباح
أتملص من بين شقوقه
أعاين منفذا للضوء" ص 45
إن هذا الاحتواء أو الحلول هو بحث مستمر عن تفجير أليات الجسد الجريح الباحث عن الحرية التي تقول عنها الشاعرة "
حرية تتحرك
في قنينة زجاج منسية
تتراشقها الأرجل
في كل الأجواء " ص 46
إن الأنا بقدر ما هي حلول في ذات الآخر هي تعبير كذلك عن الانتماء والهوية في ، في قصيدة " أنا ابن الهامش" ص 47 تقول الشاعرة
" ما أقسى غربة
الأوطان في وطني
نقد قميص الروح في كفني
تمتص رحيق الشمس في زمني
تسحق الورود رمادا
في بطانة الوهن " ص 48
فهذه الأنا هي الذات والوطن و الآخر في تناصها مع قولة تشي غيفارا في الصفحة 37 " لكل الناس وطن يعيشون فيه إلا نحن فلنا وطن يعيش فينا "
لقد احتلت الأنا الهوية / الذات / الوطن / الآخر مجمل قصائد هذا الديوان متحولة في صورها ومظاهرها التي تتخذ أشكالا نهائية وقطعية في التقائها حول مفهوم " حرية الإنسان وإنسانيته كما في النصوص التالية "
أنا الإنسان " ص 11/ أنا السجين ص 18/ أنا ابن الأرض السمراء ص 25 / أنا الذرة ص 29 / أنا الطفل ص 31 أنا لا جئ ص 35 / أنا بوغريب ص 43 / أنا الآخر ص 45 / أنا ابن الهامش ص 47 / أنا ابن الحصار " ص 51
فتيمة الحرية هي التيمة المسيطرة على روح الديوان وإهداءاته سواء داخل المتن الشعري ،أو من خلال تضمين مقاطع كتقديم لنصوص أو توطئة لها لكل من " مدام رولان دي بلاتير " أيتها الحرية كم من الجرائم ترتكب باسمك " ص 13 أو المطالبة بها سواء بشكل ضمني أو صريح من خلال مقتطفات من من أقوال تش غيفارا الداعية إلى الثورة من أجل الكرامة والحرية " إن الطريق مظلم وحالك ، فإذا لم يحترق أنت وأنا فمن سينير الطريق " ص 57
فديوان بقايا إنسان للشاعرة كريمة دالياس تمحور حول قيم إنسانية فاضلة وشكل دعوة إلى الحوار السلمي ونبذ العنف والاستبداد والموت ودعوة مفتوحة للحرية والكرامة الانسانية وهو أمر جعل من القصائد في احتفائها بالإنسان والحرية تتبوأ مكانة مهمة ومطلبا أساسيا للانعتاق
بقايا إنسان هي أنا الإنسان في اغترابه ، هي تنديد ساخر ودعوة إلى العودة إلى القيم الفاضلة النبيلة إلى "خطاب يتموقف في الوجود من قضايا عديدة محورها الحرة .. إنه خطاب البوح الاحتجاجي على سلطان القهر أيا كانت مصادره " ص 7
ــــــــــــــــــــــ
(1) كريمة دالياس بقايا انسان شعر دار التنوخي 2010