شاعر يأكل العالم بعينيه
رسالة مفتوحة إلى سامي دقاقي
العزيز سامي
تحية خالصة لقلمك الذي منحني صحوة قلب، ولأصابعك التي تلعب على إيقاع الحروف ببراعة عازف بيانو يعرف كيف يهز الجواني في. تحية خاصة للحطاب، لقبضته، لفأسه، لكل الرؤى الغائرة في الغابة.
إن الباحث عن سمفونية الإيقاعات في شعرك سيفاجأ بأنك شاعر يأكل العالم بعينيه، وفي زحمة الصور المشفرة بالحروف سيحق له التساؤل عن سر الحفر البيضاء التي تملأ صفحات الديوان*؟! وسيتساءل القارئ عن سر بشاعة الصور المقدمة (وسائد مبللة بالدماء/ جمجمة ينغلها الدود/ سيزيف الألم/ الطيور المعصوصبة/ الأفق المدمى الذي لا يصلح إلا لأعشاب الغرابين/ امرأة يابسة/ دماء ودم وجتث...)؟؟؟؟؟ !!!
إننا- كقراء- نرى الشرر يتطاير من عيون قصيدك، فهل يمسحنا هذا الرعب المستعر بمسحة قدسية ويطهر إنسانيتنا الملوثة؟؟!
إنني أقترح عليك إهداء هذا الكتاب لرسام أو مصور روحه مكهربة بالقصيد، فما اقترفته ريشة حروفك لا يقلل من قيمته إلا البياض المحيط به، بياض تعوزه صورة أو لوحة؟؟!! فإذا كانت لوحة الفنان أو صورة المصور بحاجة إلى أبهة الكلام، فإن الصفحة الفقيرة المكابرة ببياضها بحاجة إلى سلطة بصرية أقوى.
وإذا كان هناك من لا يزال يتذرع بأن الصورة الفوتوغرافية أو اللوحة المرسومة تؤدي إلى الحد من جموح أخيلتنا، فإنه لا يوجد أشد فقرا في عالمنا اليوم من صورة الحروف، وعليه فلا عيب أن تعضد الصورة الشعرية معناها وتقويه وتنوعه بصورة بصرية، وأسطع مثال المبدع مصطفى الهروب وما يفعله على صفحته بالفايسبوك، فهو ينسج كلمات جميلة على خلفية لوحة فنية أو صورة فوتوغرافية مميزة، هذا مع الفارق طبعا، فقصائدك عزيزي أصل وما الصور _إن كانت_ إلا مكملات وهوامش لها.
إنني أنظر معك عزيزي سامي إلى الديوان بعيني لا بأذني لأتساءل عن جدوى المعارك الدونكشوطية التي يخوضها النقاد والاكاديميون اليوم باسم الشعر أحيانا وباسم المتلقين؟؟ ما جدوى هذه المعارك التي تقطع القصيدة بالملمتر بحثا عن صوتها؟!
هل تخاطب القصيدة أناسا آذانهم أكثر تطورا حتى من الأجهزة العصرية في التقاط الدبدبات والموجات؟؟
هل تخاطب أناسا تميز آذانهم بين الطويل والمديد والخفيف والبسيط؟!
لقد أثار الناقد رشيد اليحياوي هذه الاسئلة وقال أيضا : "لم تعد الأذن تسمع قرع أواني النحاس هجرت مكاييل الحديد والموازين ذات الكفتين إلا في الأسواق التقليدية، لم يعد الوزانون أنفسهم يولدون على ملكة الوزن" **في اعتقادي آن الأوان لتوجيه دفة اهتمامنا إلى دعامات جديدة للنص المكتوب بالحروف، وصلة بذلك فالقارئ/المتلقي اليوم غير معني بالبحث عن صرصار الإيقاع، لكن سيبدو سؤاله أكثر مشروعية وإحراجا إن طلب صوتا وصورة للقصيدة، ولا يكلف ذلك اليوم غير قرص مدمج، ليس من أجل الاستماع إلى: فعولن مفاعيلن، بل لكي تتبلل روحه أكثر بنبر القصيدة وهي تمسرح وتعرض.
إنني أنظر معك عزيزي إلى قبة المعنى فأصاب بالدوار، وأنظر إلى أرضية الديوان مقتفيا خطوات عشب شاحب أحرقته مصورتك فلا أكتفي ببحلقة العينين، فللنصوص هنا زاوية التقاط حادة تجبرني على تلبسها بكل أحاسيسي، فما يميز صورك بالإضافة إلى مأساويتها حساسيتها ووعيها وانصاتها العميق للحياة.
قصيدتك الأولى "الكتابة من نقطة التلاشي" أورثتني إحساسا بالعقم، خاصة وأنا اراك تراود الكتابة عن نفسها، وهي تتمنع ولا تسلمك قيادها، ومما عمق هذا الإحساس أكثر المقاطع التي تشعرك بالتلكإ وتوالي الصور التي تمنحك الإحساس بأن العالم تحراق متواصل وكرة دموية.
هذا الانطباع سيركن جانبا والقارئ يتقدم متابعا قصيدة "حادثة وعي..على حافة السرير" رغم استمرارك في توثير وكهربة الكلام، وكأن القارئ استسلم للتطبيع مع الفداحات ووضع خده على وسادتك المبللة بالدم، ربما هو عنصر الدراما الداخل على الخط الذي يعطي للنص قيمة مضافة.
في قصيدة "بورتريه شائه لحطاب قديم" ها أنا أراك تكتب العالم "مثل انهمار ملاك يتأمل صلاة الكون.." فالحطاب الضالع في قتل أمومة الغابة غصنا غصنا يفضحه الشر الكامن في قبضته المستقوية بالوهم وتفضحه فأسه المتلعثمة.. لقد أعجبتني صورة الحطاب/الإنسان الذي يمارس شيطنته على أمومة/الغابة، وهو نفسه الإنسان المنزوي في قلب المدينة صامتا عاجزا عن مجاراة متطلباتها. هي قصيدة نظلمها حين نقرؤها مرة واحدة، أو حين نكتبها مرة واحدة، لذلك أعتقد أن قصيدة "ليل الغابة" إعادة لأسطورة الغابة والحطاب وامتداد لقصيدة "بورتريه شائه لحطاب قديم" ومرة أخرى أتأمل روعة الشعر حين يَقرأ بعيون حسية دهشة الوجود، أتملى عظمة الشعر حين يَقرأ أسرار الشاسع الممتد بحرا كان أو صحراء أو غابة، لا سيما إن كان هذا التأمل/التملي موصولا بالله ونوره.
سأمر بشجرة النذور، تلك الشجرة التي حفرتها الأمنيات الشائخة الشائهة ورغم جذورها الممتدة في عناد فإنها لم تنحفر أخاديد في أحاسيسي، سأجد فيها وفي قصيدة "الطير والجدار" وقصيدة "عميقا في بحيرة الموتى" صورا واستعارات باذخة:
زمنا يضرب زمنا
والعمر أرذل من علكة مومس. (شجرة النذور_ص97)
هذا الزمن المعطوب
كخيمة في الثلج
صيرنا مثل هزيمة
تلتصق بالجلد.. (الطير والجدار_ص113)
عالمي هذا شيطان أخرس
لكنه يقتل
بـ"بطريقة برايل" (عميقا..في بحيرة الموتى_ص119)
قال الشيطان: هذا الإنسان حتى وهو يحاربني، يعلمني كيف أكون سعيدا.
قلت: كيف؟
قال: لأنه حين يحاربني يرى في أخاه الإنسان" (عميقا..في بحيرة الموتى_ ص121).
استشهدت بهذه الأسطر لأقول إن الإرسال الشعري يتقطع، يبلغ ذروته ثم يخبو، وكأنك على أرائك الشعر حينا، ثم على الحصير المدمى حينا آخر..لكن البث الشعري يشتد وهجا وتتكهرب الأوصال ويرقص النخاع الشوكي (هلى حد تعبيرك) بدءا من قصيدة "أن تكون شاعرا" التي تقدم بورتريه لشاعر معاصر بأسلوب معاصر ثم قصيدة "فوق كومة من الأصابع أنقر الهواء" وفيها تحتفي بالموت منتقدا ضجة الحياة: كلام..كلام..كلام.. وكل شيء إلى قبر اسمه (الموت) لقد جعلت القصيدة قارءها يعيد النظر في الموت على أنه نضج وحق وعقيدة..
كثيرا ما عبرت عن امتعاضي من الطريقة التي تناول بها بعض المبدعين المعاصرين تيمة الموت، لأنني رأيت فيها الكثير من التصنع والتغني، لكنك هنا تنقر بدقة وحذر وتركيز مواطن الألم الإنساني، وكم سيسعدني لو تواصل نقرك الفني الجمالي في قصائد أخرى تجمعها في ديوان واحد، ستكون قد نحث مجرى حسيا أكثر وعيا وإحساسا بالموت.
هو نفسه (الموت) الذي تقوله قصيدتك " في العراء، كان طفل يرسم" لكن هذه المرة بلغة الحرب والطفولة البائسة، لا أدري لم انا قارئ طماع وأريدك أقوى وأكثر حدة، خاصة في مثل هاته المواقف الإنسانية التي غادرها الشعراء وصمتوا عنها، ولك شرف القول في مثل هاته المواقف الإنسانية.
سأجدك في "إنهم يقتلون الشمس" تعتمد إطارا حكميا مغلقا يقتل الطاقة الإيحائية، ربما لأن عبارات من قبيل: "لحظتها فقط انتبهت" أو "كانوا يقتلون الشمس" هي فرامل تستنفد المخزون التأويلي للقارئ.
تواصل رسم بورتريهات بإزميل اللغة، فينحفر تشي جيفارا ومحمود درويش في وجداني أكثر فأكثر، ولكم وددت وأنا القارئ المدلل أن تسترسل في أسطرة هاتين الشخصيتين لانهما تستحقان نزيفا شعريا أطول نفسا، تستحقان قصائد ملحمية، خاصة وأنك برعت في استلهام حضورهما.
وأخيرا أنوه بـ "ما أنا عليه الآن" وفن الحياة" فالعنوان الأول يقبض على البنية الزمنية يطوح بها ويفعل بها فعل زنجي تدرب طويلا على رمي الرمح، فأصاب جوهر اللحظة وحرك نسغها الإنساني.
أما العنوان الثاني "فن الحياة" وهي القصيدة مسك الختام في الديوان فهي قصيدة أعادت إلي التقة في جدوى الشعر، لانني قلما وجدت شعرا يقرأ خطواتك في الحياة ويجعلك تتفنن في أسلوب عيشك، وكثير من الشعر اليوم: (كلام..كلام.. كلام.. جذوره مكدودة تصفر في الهواء) لقد أحسست بك في القصيدة الأخيرة من الديوان تقوم بحركة أكروباتية بارعة على مستوى اللغة، والوعي والإحساس ثم تترك للقارئ- بتقة عمياء- أن يبدع ما تبقى...
العزيز سامي
بلغة مشحونة ما وسعك القول تدق أرض الشعر التي ما عادت ينابيعها تنفجر إلا لمن مسح الجرح بإنسانية دافقة مرهفة. وقد أحسستك في الكثير من القصائد وكأنك تصلي لتتوقف ناعورة الدم عن الدوران. أحسستك كذلك لأنني قرأت شعرا يختلف عن شعر التغني بالآلام والتباكي والمواويل. ولأنني أحسست بك تحاول أن تجعل كلماتك ضربات مخلبية وأسطرك الشعرية انقضاضات نسر، عرفت أنك تراهن أن تفعل بالريشة فعل الخنجر.
شكرا لهذا السفر الشعري الجواني.. ويكفيك عزيزي فخرا أن في أحاسيسي أخاديدا حفرتها قصائدك، وفي قصائدك أحاسيس إنسانية نبيلة ستظل عدواها تنتقل ما بقي الديوان يقرأ.
شكيب أريج
6.4.2012
* ديوان " الكتابة من نقطة التلاشي" – سامي دقاقي- دار النهضة العربية- بيت الشعر في المغرب- بيروت/لبنان. الطبعة الأولى 2012 ** قصيدة النثر العربية أو خطاب الأرض المحروقة- رشيد يحياوي- افريقيا الشرق. ص18