المهلـــــــوســــــون الـــــــجدد

الجمعة، 15 يونيو 2012

اللوحة الفارغة/ القصة الفائزة بالرتبة الأولى في مسابقة أدباء الجنوب للقصة القصيرة





اللوحة الفارغة

قصة: لـ شكيب أريج



وجوه..سحنات..وجوه..سحنات…

مضى يرسم بجنون وجوها كالحة لصبية سود تلمع ا

لشمس على وجناتهم.. على جباههم..

وجوه وسحنات، لم يتوقف


عن رسمها، تارة منكمشة، وتارة مغبرة ،وتارة منهدة..

كل صباح على الثلة الصغيرة المشرفة على الطريق غير المعبدة يرقب التلاميذ يمرون إلى الحجرة المعلقة أعلى الجبل، تلك الحجرة التي تسمى (مدرسة) !!.



ينزوي هناك ويمارس هوايته المفضلة، يتأمل ويتفرس وجوه الأطفال. العيون التي أكلها الذباب، شوارب من مخاط. وجنات غائرة. الطبيعة في هذا الصقع بالأبيض والأسود، وفي الربيع تزهر حديقة الشوك على جنبات النهر الجاف.


ها هم يتسابقون. ينطون كالضفادع وترتسم وجوههم في مخيلته. يغمض عينيه فتتقافز وجوه الضفادع أمامه.. وحدها كانت توحي له بوجه فراشة! هل للفراشة وجه؟ تتلعثم الفرشاة

أمام الطفلة المجعدة الشعر، تقف أمام الثلة في طريقها إلى المدرسة، تتطلع إليه بتقاسيم امرأة في حكمة السبعين، تضبط نظراته المسمرة إلى نعليها المتربتين. تتملى وجهه. يتمل

ى وجهها.

أوحى له منظر الطفلة ذات الربيع السابع أن يرسم وجهها بقلم الرصاص، بدل الفرشاة المتشنجة..

دأب على رسمها. شاخ الرصاص بين أصابعه، ولم يقتنع. حيره صمتها. وقفتها. ا

بتسامتها. نظرتها. تأكد من قصور مشاعره. اغتاظ وقال لنفسه: الف

نان الحقيقي يد إحساسه طويلة يمكن أن تمتد إلى أقاصي تلك العتمات. أن يخطئ اغتراف العالم الذي يطل عليه من كوة ابتسامة شاحبة على وجنتين ضامرتين معناه أن إحساسه تبلد.

كان يعرف شظف العيش بالمنطقة وأن الناس هنا يعيشون بالخبز والماء ولأجل الماء والخبز. عليه أن يستغني عن حذائه الصقيل ويجرب المشي حافيا إلى أن تتشقق قدميه وتقبل شقوق الأرض.

عليه أن يفطر بتمرات عجاف كما لو أنه هو تلك التلميذة التي هزمت غرور فرشاته ورصاص.

لم يشك لحظة أنها تقطع مسافة طويلة إلى مدرستها. يخيل له أنها تأتي من تلك المنازل الترابية المهجورة في الأعلى حيث يسكن فقراء القوم.

يعرف جيدا أن المنازل الأسمنتية الجديدة تتناثر أسفل الجبل. الفقراء في الأعل

ى والأغنياء في الأسفل. يقول لنفسه "يا لعدالة الجبل!" لكنه لم يكن يدري أنه

قبل ردح من الزمن كانت منازل وقصور الأسياد في الأعلى هي الأكثر بذخا وتحصينا من عاديات الزمن. منازل وقصور تحتكر الشمس والظلال والهواء والماء، لها ممرات خاصة، ثم دونها منازل وأكواخ على حذاء الجبل، على بساطتها فهي تطل على سهل من الحقول وتستظل بالنخيل.





ليجرب تسلق الجبل إلى ذلك المنزل

الطيني الخرب، عبر ذلك الزقاق المعبد بالأحجار الصلدة والأتربة، ليجرب مظلة الشمس قبل أن يجرؤ على رسم وجهها.



تسللت أصابعه بقلم الرصاص في واحدة من إشراقاته إلى غوامض ابتسامتها. واثقا من البرق الذي يضرب قبل رعد مشاعره، ارتعشت


أصابعه وهي ترسم الخد، وهي ترمد حواشيه، وتضغط على ال

حواجب. يحدوه أمل أن يرى في وجه الطفلة ما لم يره أحد. عليه أن يفك شيفرة الابتسامة الموناليزية. لا بد أن يحس حرارة اللقاء والفراق. لقاء أب عاد بعد اثني عشر شهرا ليقضي يوما وليلة، يصل فيهما رحم عائلته، ويصل رحم زوجته. ويرحل تاركا ابتسامتها فراشة سوداء وصدى سؤالها:

- متى ستعود يا بابا؟



***

ينزوي هناك ويمارس هوايته المفضلة، يتأمل ويتفرس وجوه الأطفال. تنط وجوه الضفادع أمام اللوحة الفارغة، وتقف ملهمته الصغيرة أمامه هنيهة. ثم يمر الطفل المكتنز الوجنتين وكأنه يمضمض شيئا في فمه، يذكر أنه باع هذا الوجه وتلك الوجنتين بمائة أورو لسائح أجنبي. لو يعلم الوجه الضف

دعي لكان مارس شيطنته وابتزازه أكثر أثناء وقوفه أمامه. تذكر

أنه أجهد نفسه لساعات أن يرسمه دون أن يتمثل وجه الضفدع في كل ضربة فرشاة ولكن عبثا..ورغم أن الطفل المكتنز الوجنتين قد فغر فمه وهو يتطلع إلى اللوحة فإن وجنتيه ظلتا منتفختين كبرقوقتين، ويبدو أن اللوحة قد خيبت أمله حين لم يجدها مرآة لوجهه. ظل يطالع وجها غريبا لا يمت له بصلة. ألوان متماوجة شوهت الملامح التي لم يميز منها إلا وجنتين ناضجتين وجبهة لامعة.

***


ينزوي هناك ويمارس هوايته المفضلة. يتأمل ويتفرس وجوه الأطفال وينتظر لحظة تقف أمامه.

انتظر طويلا هذه المرة ولم تمر ملهمته الصغيرة. رسم علامة استفهام كبيرة وسط اللوحة البيضاء المتأهبة لاصطياد ملامح وجهها.



رسمها في خياله تنادي: "- بابا....متى ستعود؟" ويسيح الرصاص على اللوح دامعا. رسمها طريحة الفراش تتألم من حمى مفاجئة وجبينها يتفصد عرقا. رسمها بأحاسيسه الملتاعة.. لا أحد يفهم حرقة أن تفقد وجها أدمنته.. "الإنسان عندما يصاب بعدوى الإنسان لا يرتاح إلا عندما يفتح قبره".


وجوه وسحنات، أيام وليالٍ تمر أمامه، وذات الابتسامة التائهة لا أثر لها، عزاؤه الوحيد أن يستلهم وجع البعاد عله يفجر ينابيع الإبداع. إنه ملك والرتوشات واللمسات إماؤه وجواريه الحسان، لكن ما جدوى أن يكون ملكا حزينا! !؟

***

اللوحة الفارغة مثل المقعد الفارغ.


ينظر المدرس المقعد المهجور، ويتابع لطخ الطباشير على السبورة. ومن خلف زجاج النافذة يطل وجه الملك الحزين، فيبدو له الفصل كئيبا دونها..(آآاه..أين أنت يا طفلتي الوديعة؟) حز في نفسه أن لا يحس بحالها. كان داخله ينغل: أنت لست فنانا، ما دامت يدك عقيمة إلا من رسم وجوه ميتة، وابتسامات محنطة.


لمحه المعلم فابتسم ابتسامة عريضة، وهو يتجه لفتح النافذة. ها هو ذا الوجه الذي لا يصلح حتى لمسح بلاط مطعم كريه مليء بالصراصير في الأزقة الجانبية من المدينة..ها هو يمد يده الطبشورية مصافحا. هو لا يعرف أن رساما مثله خبر الوجوه، وفي استطاعته قراءة الخوف على وجهه أفضل من عرافة تقرأ الفناجين، ولا شك أنه اطلع للوهلة الأولى على خوفه من مرؤوسيه، من السلطة، من المستقبل، من الزوجة، من الأغراب.. ورغم حديثه الودود عن الطفلة: ( تلميذة مواظبة، مجدة، متفوقة على أقرانها..) إلا أن علامات الاستفهام


والتعجب ظلت تنبت كفواصل بين كلماته المتلعثمة، وكأن الشعور بأنه مشبوه لم يفارقه لحظة.

- (لم تأت منذ أيام.)


يقولها المدرس كالمعتذر. ويعود أدراجه إلى الفراغ، وإلى البياض.

***

وجها لوجه، أمام اللوحة الفارغة. يحدق في بياض المقعد الفارغ. أيذهب إلى بيتها ومعه باقة ورد؟ يكون قد فعل الذي لم يفعله مدرسها الذي كاد يكون رسولا. ثم من أدراه أنها طريحة الفراش..؟ !

لا بد أن يكف عن التفكير في أنها مجرد نموذج لرسام فاشل، الرسام الحقيقي لا تكون لوحاته مجرد تمرينات خائبة لفك طلسم ابتسامة شاردة. لا بد أن يدقق الشعور بها ككائن بشري، وأن يكون الأقدر على سبر مشاعرها التي لا تطفو.

يعرف أن لا قيمة للوجوه المكشوفة، ووجهها كان عتبة لكون سري. بوابة لوجود آخر.. ضفة أخرى للعالم. رسمها بوعيه وبلا وعيه، رسمها بأبجدية أخرى. تبدى له أنه يستكنه سر هذا الوجه، فغيابها الوجه الآخر لحضورها. جنت يده والتهب الرصاص بين أصابعه ومضى يلتهم الفراغ بكل ما أوتي من أحاسيس متوهجة، متدفقة.

رسمها هذه المرة امتدادا لوجوده، امتزج وجهه بوجهها. اختلطت ابتسامته بخيال ابتسامتها. شحوبه الطارئ بعض من شحوبها. جسده المكدود يماثل الوجه المتعب المنهد. كان يحسها هذه المرة أكثر من أي وقت مضى.. تقبع كذكرى غامضة في ركن قصي من الذاكرة. جسمها المتكوم في دائرة الضوء..ضوء إحساسه المتوقد.. إيمانه راسخ هذه المرة أن الطفلة الحزينة تجلس وحيدة في البرد والليل مثل بائعة الكبريت.. كانت ملامح اللوحة البيضاء الجائعة تلتهمه وهو يباشر البوح بالوجه المقهور الحزين.

وجهه. وجهها. ابتسامته. ابتسامتها. همس إليها. همست إليه: أين أنا؟ أين أنتِ؟. اختلط اللون بالحرف. امتزج الصوت بالصمت. أتاه اليقين من الأسود تحفره أصابعه الثائرة على أظلع اللوح الأبيض. كلما كان الأسود قاتما، كلما كان الليل عميقا موحشا.

لا بأس ببعض الضوء هنا ينبعث من شرفة ذاك البيت الصخري العالق في أعلى الجبل. تطلع إليها من سماء إبداعه وهي تنحني على كراسها. رسم ظل الشمعة متهدلا. تقوس ظهره أكثر وهو يرسم جسدها المتكوم كتاء مربوطة..

كانت تكابد من أجل أن تحصل على علامات مرتفعة لتقنع الجميع أنها جديرة بمتابعة الدراسة. تكافح وتجر نعليها في المنحدر والوادي والمرتفع للوصول إلى مدرستها. تناضل وهي تقاوم النوم على بساط كراريسها في سباق مع ضوء آخر شمعة، وكان يحس نصل الحرف عاريا يجرح وجدانه وهو يسمع:

(- ليس عدلا أن ترسلي ابنتك إلى "السكويلة"* وابنتي تورد الماء، وتغسل الأواني وتطعم الدجاج..)

تنزوي جانبا وهي تسمع صراخ عمتها. تلوذ بكراريسها وأقلامها. محتمية بابتسامتها الغائمة، ترسم بأقلامها اللبدية سماء سمراء، شمسا زرقاء، نخلات قصيرة جدا، ويحدث أن تنصرف إلى وجه تعيث فيه رسما. ترسمه. يرسمها. يخترق حجبها. فاجأها. فاجأته وهي تحدق وهو يحدق في تقاسيمها. أجهشت بالبكاء، بكاء كالضحك. أجهش بالضحك. ضحك كالبكاء.. !

احتضنت كراسها. احتضن لوحته. احتك خده أكثر بخد اللوحة ليسمع أنينها: (بابا.. أريد أن أذهب إلى المدرسة..أرجوك..) ولاذ بصمت كالموت ودمعته تتدحرج على صدر اللوحة.

وضعوا حساء شعير، وبضع تمرات. أشاحت بوجهها. دلق فنجان القهوة(لم يشرب إلا سوادها). نادوها للغذاء. رغبوها في الشاي والكعك. هددوها بإحراق كراريسها وكتبها.

***

هو لم يرسم هذه اللوحة، بل عاشها. عاش تفاصيلها في بيت طيني، تلزم الصمت في إحدى زواياه طفلة بئيسة، ممتنعة عن الطعام. تواجه حربا أكبر منها. تشهق من حين لآخر باكية: "أينك يا أبي.. هل تدري أن ابنتك التي لطالما حلمت بها محامية أو دكتورة تنتظر الآن قدرها "

لم يكن يرسمها، بل كانت فرشاته تجوب المنزل الطيني.. جد مرمي كالخردة في إحدى العتمات لم يفهم خطبها..نسوة تحلقـــن وسط الدار لعثمـــن الكلام، وقلــــن:

- تخطت عملا.

- جُنت المسكينة بـ"السكويلة"

- أبناؤنا يهربون من "السكويلة" وهي تهذي بها..

رسم عشبا ميتا..برتقالا مرا..زقاقا موصدا..كهفا لا تقاوم شهوة استغواره..جبلا يطأطئ الرأس..نخلا ينحني بإذلال..وجوها يندلق منها المعنى..

يدها تلوح مستنجدة وهي تغرق في بياض اللوحة..فرشاته مجداف تسارع نحو ضفة ما..فرشاته يد تجدب الطفلة..قبل أن تتبلد ابتسامتها فر بها من بياض اللوحة ومن عتمة الليل..بعيدا يعدو بها..يأخذها إلى أين؟

***

المقعد يحتضن الوجه تلو الوجه..

لوحته تحتضن الوجه تلو الوجه، مثل الكرة البلورية الساحرة. دقق النظر في بياضها..تراءى له طيف طفلة مجعدة الشعر بابتسامة ترفرف على محياها مثل فراشة سوداء، بوجنتين كأن بهما تجاعيد امرأة في حكمة السبعين..ثمة شيء جميل ووحده يكنه السر!

التفتت إليه وغمزت فلكزت غريزة الإبداع فيه. اغرورقت اللوحة بالألوان. فر من قلم الرصاص. تأهب للهجوم مثل مقاتل يحمل الفرشاة سيفا ويتمترس باللوحة. وأمامه كانت الحياة تبتسم ابتسامة غامضة. ليفكر ألف مليون مرة أيرسمها أم يعيشها؟؟؟

* السكويلة: يطلق بعض أهل البادية على المدرسة اسم السكويلة، وهو اسم مشتق من كلمة School

شكيب أريج

هناك 4 تعليقات:

  1. أعجبتني هذه القصة لدرجة أنني أقرؤها و أعاود قرائتها،كأنها لوحة فنّان لا تمل العين ولا العقل من فهم معانيها،حقاً إستمتعت بقرائتها

    ردحذف
  2. Allah grant you success all that is valuable .. Where new themes ?!

    ردحذف
  3. قراءة ممتعة للجميع. شكرا لعبوركما.

    ردحذف
  4. شكراً كتييييييير ع الموضوع .. :)

    ردحذف

أكتب تعليقا مم تخاف؟