تأملات حول القصة القصيرة في ليبيا
من خلال مجموعة "ضمير الغائب"1 ليوسف الشريف
على الرغم من المساحات الصحراوية الشاسعة في ليبيا، فالقصة الليبية موسومة بأنها الابنة الشرعية للمدينة، ففي مقال بعنوان "نثر المدينة" قراءة في القصة القصيرة الليبية. يرى منصور أبو شناف أن القصة القصيرة في ليبيا فن مديني، فن تنتجه المدينة ليعبر عنها، ربما لأن الشعر كان فنا ريفيا.2
سنتأمل هذا الافتراض على ضوء مجموعة قصصية لواحد من رواد القصة القصيرة بليبيا وهو يوسف الشريف في مجموعته "ضمير الغائب" لكن قبل ذلك دعونا نقول بأنه من المجحف أن نجعل هذا التقسيم الجغرافي موازيا للتقسيم الأجناسي، خاصة أن الشعر يثوي فيما هو نثري، والعكس صحيح فجينات النثر تسري في دماء الشعر.
هكذا يمكن الحديث عن السارد الشاعر في ليبيا مما يفسر غلبة التعبير بالرمز أو الهمز لدى الأدباء الليبيين3. لنخلص إلى أن بحيرة الأدب بالقطر الليبي تستوعب هذا التداخل المشروع بين القصة والشعر وتستوعب في شكلها ومضامينها المراوحة بين المدينة والريف.
يرى الكاتب والقاص كامل المقهور أن فترات كفاح الشعب لصد الغاضب (المستعمر) كانت مناخا طيبا لنمو الحكاية التي كان مخاضها في حضن الجدات والمجاهدين المقاومين4 لكن نزوع القصة في ليبيا إلى الهمس واللمز والغمز والرمز يدعو إلى التساؤل حول تشربها لماء الشعر من جهة، وحول حاجتها إلى مناخات الحرية من جهة ثانية.
حين نطالع مجموعة "ضمير الغائب" الصادرة سنة 1986 لكاتبها يوسف الشريف نفاجأ بكثافة الإيحاءات المسيجة للمعنى في سرد معجون بلغة مستفزة للخيال والحواس. لغة بامتداد الصحاري، وكثافة الكثبان. لغة تؤسس لعلاقة عدائية مع مكان المدينة:
"كان الشارع قفرا أسودا والسماء رداءً رماديا، يلف المدينة" قصة ضمير الغائب- ص09.
إن السارد الشاعر وهو يكتب عن الفضاءات المغلقة المسيجة بالقوانين، المفخخة بالمحاذير يحاول ترويض كينونته الجامحة، فكأنه يضع الملاك في الآلة، ولأن تيمة المدينة احتلت مساحات كبيرة في السرد القصصي في ليبيا كان من البديهي أن يربط بعضهم بين القصة القصيرة والمدينة إلى الحد الذي يجعله يعتبر القصة فنا مدينيا دون أن ينفي كون " المشهد المديني في القصة القصيرة الليبية يسود دائما دون أن تختفي منه بقع الرعوية" 5
المشهد المديني حين ينكتب بلغة شعرية جامحة فإنه ينفلت من إساره. وهكذا هو يوسف الشريف عندما يكتب نصوصه فهو يحضر بكامله. حواسه وعواطفه وحدسه وخياله 6 فنجده في قصة "مقدمة لحادث لن يقع" يكتب عن أفق مدينة وليس عن المدينة ذاتها. وبعين السرد الآثمة يرصد مشاهد جحيمية:
"صهد الشمس أذاب إسفلت الطريق، والطريق تغيب نهايته في الأفق، والأفق سراب، والسراب سراب الظهيرة، تطاير رصاص في الفضاء فأطلقت السيارات صرخاتها، حطمتها العربات المدرعة، تراكض البشر، وتدافعوا وتساقطوا وتبادلوا العنف بقبضات الأيدي وبالشفاه والأقدام، تلاشى كل صوت، انبطحوا على بطونهم والتصقت جباههم بالطريق وتذوقوا طعم السائل الأسود المذاب.." قصة مقدمة لحادث لن يقع- ص19
لقد تميزت كتابات يوسف الشريف بطابعها الضبابي التعتيمي حتى لأن الكتابة عن المدينة هي كتابة عن اللامكان، ونستعير هنا جملة قالها يوسف الشريف نفسه عن الأدباء الليبيين: إنهم يكتبون عن كل العالم ما عدا ليبيا" 7 ولم يكن الشريف بمنأى عن هذا التوصيف، فهو نفسه يجعل سرده خلوا من أي تحديد أو تصريح أو إفشاء. وكأي عراف أو متنبئ يطلق العنان لحدوسه ليستشرف نهاية واقع ممجوج منبوذ، فتأتي قصصه متواليات من التنبؤات والتكهنات يعتريها الخوف والترقب والتوجس:
"توغل في قلب المدينة الخالية، تطلع للنوافذ المقفلة وتوقف أمام قصر الملك، حراس مصفحون بالسلاح حتى أخمص القدم، يتبادلون الأمكنة والخوف والتوجس من كل مصدر حركة،.." قصة من أين يأتي الحب- ص75-76
وعلاقة بالآفاق الاستشرافية للأدب يمكن القول أن كتابات الشريف الإبداعية أكثر إصابة من كتاباته التصريحية في حواراته ومقالاته، ففي نقاش سياسي سبق ليوسف الشريف أن قال: "الأنظمة الشمولية من يغيرها؟ غير معروف" 8
وها هي إبداعاته في القصة القصيرة تتنبأ بتحول المدن إلى ساحات حروب والناس إلى أمواج متلاطمة:
" بحر بلا شطآن تتصارع أمواجه في قلب التيار ترتفع منبثقة من تحت اللجج السوداء كأنما تبغي الخلاص لكنها تعود وتتلاشى وسط أمواج أخرى تأخذ مكانها.." قصة زائر الليل-ص26.
يجد الناقد الليبي فوزي عمر الحداد في دراسة نقدية حول سرد القاص الليبي التكبالي، أن سرد هذا الأخير ينحو نحو حوار داخلي عبر أحاديث باطنية طويلة يصعب معها ملاحقة الحدث9 وهي التقنية نفسها التي يتمترس خلفها يوسف الشريف، بعد أن تمترس خلف لغة الإيحاء والرمز فكانت القصص تود أن تنبس لكن الكتمان يجللها، تريد أن تبوح لكن الخوف والتوجس يجعلها مترددة، بل ومحسوبة الكلمات:
"صدى العقب الحديدية تمزق صمت الليل وبريق العيون الذبابية المختفية خلف الزوايا والمنعطفات، وقصر الملك غارق في الظلام والصمت المترقب كصمت النهاية الفاجعة" قصة من أين يأتي الحب-ص76-77
وأشارت بعض القصص وباستحياء الإيحاء إلى زوار الليل (زائر الليل)ص21 وبفائض من الحب انتقدت قصة (من أين يأتي الحب)ص73 السلطة المستبدة. وتكفل السرد الموسوم بكونه شلالا فكريا منسابا بترسيخ قناعات فكرية ثورية لكنها نخبوية وليست في متناول القارئ العادي بدليل أن قصة مثل "نهاية أبو زيد الهلالي" ص27 أو قصة "الوحش" ص49 هي قصص استندت على عكازة مونولوج داخلي غير مباشر يسميه "ديفيد لودج" الأسلوب الحر غير المباشر، وهي طريقة تقدم الأفكار على هيئة حديث يسرد في صيغة الغائب وفي زمن الماضي 10
وفي الأخير فإن لغة الإيحاء والرمز وكآبة المدينة وتوسل مونولوج داخلي قد لا تكون أشكالا هروبية بل اختيارات أملتها ذائقة مجددة ومرهفة ومتمرسة.
وختما فإن القصة القصيرة في ليبيا ستجد في مناخ الحرية بعد النظام الشمولي البائد مساحات بكر مسكوت عنها، ولا شك أن القصة بهذا الطر لها كتابها الذين تمرسوا على أشكالها وصيغها الجديدة، فهم جديرون بها وهي جديرة بهم، على أن تبتعد الأقلام النقدية والرجراجة عن التصنيفات اللاأدبية: مديني أو ريفي، نسائي أو رجالي، أصولي أو علماني،،، وتحتكم إلى الكتابة الجملية الحقة.
شكيب أريج
nawras@gmail.com888
1- ضمير الغائب- قصص قصيرة- يوسف الشريف- الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع- الطبعة الأولى 1986
2- نثر المدينة - قراءة في القصة القصيرة الليبية- منصور أبو شناف.
3- الأديب الليبي: يوسف الشريف الأب الروحي لقصص الأطفال- موقع وسان
4- حول القصة الليبية- كامل المقهور
5- نثر المدينة- منصور أبو شناف
6- الأديب الليبي: يوسف الشريف - موقع وسان
7- نفسه
8- نفسه
9- دراسات نقدية في القصة الليبية- منشورات المؤسسة العامة للثقافة- فوزي عمر الحداد- الطبعة الأولى 2009- ص51
10- نفسه- ص51