المهلـــــــوســــــون الـــــــجدد

الخميس، 15 ديسمبر 2011

محمد شويكة في الحلقة الأولى من هواجس الكتاب


الحوار الأول: محمد اشويكة



توطئة: 
محمد اشويكة أحد الأًصوات المائزة في التجربة السردية الجديدة بالمغرب، نشر نصوصه ومقالاته المتنوعة بالعديد من المنابر المختصة داخل المغرب وخارجه، من مؤسسي الكوليزيوم  القصصي، قدم للمكتبة العربية مجموعة من المؤلفات آخرها "" . كما ساهم في إنجاز عدة  برامج وأفلام للتلفزيون المغربي.
في هذا اللقاء نفتح معه هامشا لاختراق مجاهيل مفترضة، باحثين عن إضاءات تلامس تجربته بشكل خاص، والتجربة القصصية المغربية والعربية بشكل عام.

القصة القصيرة جدا تجربة جديدة منفلتة وذات بعد تجريبي. كيف تنظر إلى هذه التجربة؟
في الحقيقة، لا أشتغل عن القصة القصيرة بشكل منفصل، بل هي مكون من مكونات قصصي، فالقصة يحكمها القِصَرُ سواء كانت ومضة أو قصيرة جدا أو صغيرة... أكتب نصوصا قصصية كشذرات يجمعها رابط داخلي قد يكون تيماتيكيا أو منطقيا أو نفسيا أو عقليا أو لغويا... وهذا يرجع في نظري إلى صعوبة الإحاطة ببعض الظواهر في الزمن الراهن الذي يظهر للعيان أنه يمنح كل شيء، في حين أن كل شيء فيه مُقَوْلَبٌ داخل أنظمة إيديولوجية صعبة الفهم وضاربة في التعقيد... ولذلك فالقصة القصيرة جدا هي مساءلة ومحاولة للقبض على بعض من هذا الاستعصاء الثاوي في لحظات الزمن المنسابة...

ما هي الإضافات التي يمكن أن تضيفها القصة القصيرة جدا إلى منجز القصة العربية والعالمية؟
الأدب عامة، إدراك معين للوجود: يعلمنا كيف نعيش وكيف نحيا... فالقصة القصيرة في نظري، لا يمكنها أن تخرج عن هذا الإدراك الكلي للحياة في المغرب، سواء وعى القاص ذلك أم لم يعيه: عندما نختار القصة القصيرة جدا، فنحن نختار طريقة للإدراك والتواصل.. كان الحكي طريقة لفهم العالم والإجابة عن أسئلته البسيطة والمعقدة، ولنا في الأسطورة أكبر درس على عمق هذا الاختيار في مقاربة الظواهر الطبيعية والإنسانية.
عندما نطرح مشكل الإضافة غالبا ما نطرحها في السياق المعرفي والوجودي..  أما عندما نطرحها كخصوصية ثقافية وإبداعية.. مغربية، تحاول أن تصل إلى "العالمية"، ننظر إلى العوائق بمغص وغصة شديدين: كيف لم نستطع لحد الآن تسويق الكتاب القصصي المغربي على المستويين العربي والعالمي؟ كيف لم نستطع وضع خطة محكمة لترجمته؟
أظن أن التجربة القصصية المغربية، في إطار تَنَامٍ ثقافي شامل، بلغت من النضج ما يجعلها تتجاوز الحدود في إطار منظم.. وفي ذلك إغناء لها، وتكسير لهيمنة الأدب المشرقي (المصري خصوصا) والغربي (الفرنسي منه خصوصا).. وأنا لست هنا ضد أحد، ولست شوفينيا.

يهيمن الملمح الواقعي/ السخري على نصوصك القصصية. من أين يستمد هذا الملمح مرجعيته؟
أكاد أقول بشكل مباشر: من سخرية الحِرَاك الاجتماعي الذي يعيشه المجتمع المغربي.. ومن مفارقاته التي تتعايش بشكل مزعج وفاتن في آن: مزعج من حيث عدم انسجام سياقاته؛ وفاتن من حيث أنه مادة خام لقصص ممكنة..
إن سخرية النصوص تستند إلى واقع الكتابة أولا: واقع لا يعترف بالكاتب كمهنة، ولا يعترف بالإبداع كضرورة، ولا يعترف بأهمية الثقافة والعلوم والفنون والآداب.. في الإقلاعات الاجتماعية الممكنة.. نُفَعِّلُ الثقافة موسميا، وذلك من باب الزينة والماكياج.. إذ لم نستطع لحد الآن (في سنة 2007؟!) الرفع من شأنها عن طريق التحفيز، وعن طريق ترسيخ تقاليد الاستهلاك الثقافي للمنتوجات الذهنية المكتوبة. أليس الأمر غاية في السخرية؟!
ثانيا: أعتقد أن الكاتب المغربي لم يستطع لحد الآن كتابة واقعه لأنه واقع يفوق التصور، وتعجز دلائل اللغة التعبير عن الكثير من مفارقاته والتجارب الحميمة لأصحابه.. لذلك، قد تعثر في نصوصي على مرجعيات واقعية متعددة: واقعية ملموسة مباشرة، واقعية مجردة (تخييلية)، واقعية سحرية (غيبية)... تتجاسر كلها مُحَاوِلَة الإجابة عن بعض من أسئلتي/أسئلة المجتمع القلقة والمعلقة.

هل القصة معنية بالضرورة بترصد الواقع وصراعاته؟
ليس بالضرورة لأن الإبداع لا يستند إلى الجاهز دائما، بل يخلق واقعا آخر. المبدع قد يستبق لأنه لا يقف عند حدود اليومي والمتداول والشائع والعام... يرحل بفكره وخياله إلى قراءات احتمالية قد تكون غير ملموسة في الوقت الذي كتبت فيه، لكن قد تصبح مع مرور الزمن متجاوزة... إن تصورًا للإبداع القصصي بهذا المعنى، يحيل إلى واقع ملموس يقبض عليه القاص، وإلى واقع آخر قد يبدو غير متحقق، يقبض عليه القاص وقد ينفلت منه، لكنه ممكن... وهنا تكمن متعة وجمالية القصة القصيرة: أن تصنع عالما ينبني على لعبتي التجريد والتخييل ـ الاختلاق، فتصبح هذه اللعبة ورطة للقاص والمتلقي، ولعبة القصة في حد ذاتها. القصة جوهرها الاختلاق، وأساس الاختلاق القصصي التكثيف والمفارقة.

أثيرت جدلية العلاقة بين الكاتب ـ المبدع والقارئ منذ أزمنة.. وأنت تنكتب هل تضع افتراضات قرائك الممكنة واللا ممكنة؟
أعتقد أن المبدع قارئ كبير، إنه تجربة قرائية، وخزان لنصوص وأفكار مترسبة عبر الزمن، فلا يمكن أن نعزل في نَفْسِ المبدع بين حدود القارئ وحدود المبدع بشكل عملي أثناء الكتابة... إلا أن الكاتب المبدع الذي خَبِرَ تضاريس الكتابة، يستطيع بحدسه الفكري أن يتجاوز حدود القارئ فيه لينتج نصا يتجاوز التجربة القرائية الذاتية: حامل لها ومتنصل منها، نص مراوغ يحمل كل قارئ إلى دهشة ما تجعله يتأمل النص خارج أسوار ذات الكاتب كمرجع.
أظن أن علاقة المبدع بالنص تكاد تنتهي بمجرد نشر النص في كتاب لأن إمكانيات الإضافة أو التنقيح أو الحذف.. تصبح مستعصية (سيما على الكتاب الورقي)، كما أن النص يؤسس بعد النشر لنفسه سفرا خاصا في مخيلات غيرية يصعب التكهن بمخزونها المعرفي مما يزيد من صعوبة الوصول إلى الممكن أو اللاممكن لديها! ومع ذلك تبقى كل الاحتمالات والافتراضات ممكنة.. فالإبداع قبض على الممكن واستشراف لتطويع اللاممكن مستقبلا.. لذلك فالقارئ اليقظ لا يمكن أن نضع سقفا لأفق تطلعاته وافتراضاته واحتمالاته: قد يفاجئ دائما.. ولنا في إعادة قراءة بعض النصوص اندهاشات كثيرة، مما يقودني إلى القول بأن لكل قراءة لحظتها وظروفها.

التجربة القصصية المغربية التسعينية. هل هي امتداد للتجربتين القصصيتين المشرقية والعالمية أم انفصال عنهما؟
عانى المِخْيَال القصصي المغربي من هيمنة مركزيتين قصصيتين: مركزية القصة الغربية، ومركزية القصة المشرقية، وظل حبيسهما بطريقة واعية وغير واعية في بعض الأحيان نظرا لعوامل كثيرة أهمها تكريس درس الأدب لتلك المركزيتين دون إعطاء النص القصصي المغربي ما يستحقه داخل خريطة المدرسة المغربية؛ ثم استيلاب الكثير من القصاصين المغاربة (إلى حد نكران الانتماء!)، وافتتانهم المنقسم بين الغرب والشرق.. فهل هو قدر الجغرافيا فعلا أم ضياع البوصلة وسط هذه الجغرافيا!.. كما يمكن أيضا أن أشير إلى هيمنة مركزية أخرى أعتبرها هامشية مقارنة بما سبق، وهي مقولة الجيل التي أعتبرها أقرب إلى المقولات العرقية منها إلى المقولات العلمية النقدية.. شخصيا، لا أستطيع أن أدافع عن إبداعية جيل دون آخر: لكل ظروفه..
أظن أن التجربة القصصية المغربية قد بلغت مرتبة من النبوغ والنضج يؤهلها لتَعْبُرَ جغرافيات أخرى، وبالتالي تخرج من قمقم الاستهلاك السلبي الذي يعتمد المقارنة الفجة مع أقطاب تلك المركزيات المذكورة! إن القصة المغربية تحتاج الآن إلى نوع من الجدل الإبداعي والنقدي القائم على التكامل والاعتراف والإضافة وتبادل التجارب.. شخصيا، تتأسس رؤيتي للقصة المغربية على أنها كُلٌّ متكامل متطور، محكوم بظروف زمانية ساهمت في بلورته.. وأظن أن هذا مدخل موضوعي يجنبني السقوط في أية قراءة أصولية أو نكوصية أو شوفينية.. قد تنتصر لجيل على جيل، أو ترى بأن القصة قد تحققت في زمن ما.. القصة مفتوحة على المستقبل، ولا يمكن ردها إلى الوراء، ففي ذلك رِدَّة تقضي على عنصر التجديد والإبداع.. فالزمن مجرد نقطة انطلاق بالنسبة للمبدع، أما إبداعه فقد لا يحكمه زمن، ولا تحكمه جغرافيا.

منذ التسعينيات برز ما يشبه ثورة قصصية مست الشكل والمضمون. إلى أي حد يمكن المراهنة على هذه الثورة؟ وهل هي ثورة تستند على مرجعيات أم أنها لا تعد مجرد تقليعات أهوائية؟
تساوقا مع ما سبق..
أظن أن المتتبع للمنتوج النقدي القصصي الجيد (الناذر!) حول الإبداع والخطاب القصصي بالمغرب، والمُطَّلع المتمعن لتجارب القصاصين المغاربة (لا أتحدث عن الجالية طبعا!)... ليقف عند مجموعة من الخصائص الموضوعية للتطور القصصي الحاصل في المغرب كما وكيفا: تطور في المضامين، اجتهادات على مستوى الشكل، انفتاح على حقول معرفية وجمالية، بحث إبداعي، خلخلة للمفاهيم السابقة... مما زعزع أسئلة قصصية كانت راسخة في مخيلة الكثير بسبب طغيان الاستهلاك الاجتراري لتجارب الشرق والغرب دون توطين أو إبداع مفاهيم تتوافق وما نعيشه من خصوصية إبداعية مغربية!
إن المخيال يمكن أن يتعرض لـ"لاستيلاب" و"الاغتراب" و"الاستشراق".. مما قد يؤثر على الذات المبدعة فتحس بالغربة والتمزق، وتصدر عنها مقولات ديماغوجية تجعلها لا تعي تنشئتها وتربيتها وعيشها داخل المغرب.. يمكن أن نتحدث عن التنشئة المِخْيالِيَّة، وهذه مرتبطة بالثقافة التي يتحرك في إطارها الكائن الكاتب... لذلك فالقصة المغربية يلزمها الكثير من الوعي الذي يتأسس على المعرفة، يجب أن ننتبه إلى تجارب تحاول في صمت محاورة المرجعيات المركزية القصصية (الجيلية، الشرقية، الأبوية، الغربية...) بعمق، وتطور المرجعية القصصية المغربية شكلا ومضمونا.

من ملامح هذه الثورة بروز أصوات قصصية نسائية. كيف تقرأ تجربة الكتابة النسائية مغربيا وعربيا؟
كثيرا ما تهربت من الإجابة على سؤال يتأسس على مقولة بيولوجية!
لا يمكن أن نكون رؤية موضوعية للقصة المغربية على أساس التصنيف الذي يعتمد الجنس.. أظن أن المداخل الجمالية والإبداعية.. تسعف كثيرا في فهم النصوص. قد تختلف المرأة عن الرجل، وقد يتفوق أحدهما في رصد بعض اللحظات الإبداعية المتعلقة ببعض التجارب الحميمة المتعلقة بطبيعة الإنسان الفيزيولوجية والهرمونية والنفسية والجسدية.. لكن هذا لا يؤسس لأدب "نسائي" أو "رجالي".. الأدب كل غير قابل للتبعيض أو التجزيء على هذا النحو.. رغم أن زوايا النظر تختلف. إن رؤية موضوعية بسيطة للمتن القصصي المغربي، تسفر عن خلاصة مفادها أن "الرجل ـ الكاتب" يحتكر الميدان القصصي، وذلك في إطار عقلية ذكورية مستشرية في كل القطاعات، تلخص المرأة في مقولات لا علاقة لها بالإبداع.. وهذا ما يمكن أن نلاحظه في الكثير من الدول العربية التي يتم تداول الإبداع ـ الذي تكتبه المرأة ـ فيها بشكل سري وكأنه فياغرا.. ولنا في الاتهامات الموجهة للروائيات العربيات والمنع الذي تتعرض له بعض إبداعات المرأة الكثير من العبر.. فهل الكتابة تدخل في إطار الممنوع؟ أم أن خطورتها تكمن في تناولها للمكبوث؟ أم أن الكتابة فعل ذكوري مرتبط بـ "القضيب ـ القلم"؟
رغم ذلك، استطاعت المرأة في المغرب أن تحقق تراكما نوعيا في مجال القصة ساهم في إغناء التجربة القصصية المغربية، بل أضاف إليها رؤى مغايرة ساهمت في تشكيل ما يمكن أن نسميه "البوح السردي"، وهو بوح ذاتي وجماعي يعكس الحالة الإبداعية للإنسان المغربي.. وخاصية البوح هاته من الميزات القوية للقصة المغربية الجديدة.. هناك أصوات قطعت فعلا مع التجارب السابقة، إذ قدمت سردا عاريا وخاليا من نفحات الانتماء إلى "مجتمع النساء" أو "مجتمع الذكور": قدمت قصصا قصيرة للإنسان.
إن عدم تركيز أي أحد على مصطلحات من قبيل: "القصة الرجالية" "الرواية الرجالية" "الشعر الرجالي".. دليل على أن "القصة النسائية" مصطلح غير موضوعي! لذلك أتمثل النص القصصي الجميل بغض النظر عن جنس كاتبه (أحيل إلى مقال لي في الموضوع حول "هوية الكتابة").

ما هي القيمة المضافة لهذه التجربة "تجربة الكتابة القصصية النسائية"؟
أظن أن أهم إضافة قدمتها بعض الأصوات القصصية "النسائية"، قطعها مع الانتماء إلى "الأدب النسائي" الذي أعتبره توصيفا إيديولوجيا وديماغوجيا وسياسويا.. يحمل في طياته الكثير من الغبن والاحتقار للفاعلية الإبداعية للمرأة كإنسان، ويكرس الهيمنة الذكورية.. فالقصة، في نظري، يحكمها شرط الإبداعية بغض النظر عن جنس كاتبتها/كاتبها (أنثى أو ذكر).
لم يستطع لحد الآن أي مبدع عربي أو أية مبدعة عربية أن يجيب عن سؤال الذكورة والأنوثة لدى كل منهما لحد الآن؟ أو بمعنى أدق: كيف يعبر القاص(ة) عن الحدود الفاصلة بين الذكورة والأنوثة فيه؟ مع العلم أن الكثير من القصاصين والمبدعين عامة يتحدثون عن ظواهر جنسانية ونفسية ومرضية.. بكثير من الفجاجة والعقد.. لم نتخلص بالفعل من مخيال ألف ليلة وليلة بفانتزماته الإيروتيكية "Fantasmes érotiques" وعوالمه الشبقية... إن فحصا دقيقا للواقع يكشف بأن تحقير الذكر للذكر يلخصه لفظ "الزّامل"، وتحقير الأنثى للأنثى يلخصه لفظ "القحبة"، والعكس. وهذا يعني تحطيم نظام الهوية الجنسية لدى كل منهما. فهل يستطيع المبدع تجاوز ذلك الواقع؟ أم أن الأمر يتطلب مراجعة تكوين مبدعينا ليتخلصوا من ضغط ثوابت الرقابة؟ لكل تلك الأسباب وغيرها، أعتبر أن هناك الكثير من النصوص التي لا يستطيع أن يدرك القارئ مدى حضور أنثوية الانتماء في تضاريسها... وتلك أهم قيمة جمالية مضافة للجماليات القصصية التي تكتبها بعض "النساء" الآن.

10ـ هل يمكن الحديث عن أسماء قصصية  نسائية مميزة؟
بما أن تقييم أية تجربة إبداعية، يقتضي رؤية شمولية لها، فلا أستطيع أن أتحدث عن تجربة/تجارب لم أطلع عليها كليا.. ولذلك سأكتفي ببعض الملاحظات بخصوص بعض التجارب المغربية.. التي يمكن الحديث في إطارها عن إضافات حقيقة ـ في سياق الإطار الذي أشرت إليه سابقا ـ خصوصا وأنا أستحضر تجارب (لطيفة لبصير، لطيفة باقا، عائشة موقيظ...) [كقارئ عاشق] باعتبارها حاولت أن تفتح القصة القصيرة المغربية على أفق سردي أبعدنا في كثير من نصوصه عن المواضيع الاجترارية التي ظلت الكثير من القصص تعيدها، والتي تنقل الواقع دونما فك ارتباطاته المعقدة.. بل في بعض الأحيان، اختلطت القصة بالمقالة السياسية ذات المنحى الإيديولوجي الذي يشير إلى توجه سياسي يحيل على انتماء كاتبته! إن تلك التجارب، قد قطعت في نظري مع ذلك النوع من الحكي، وقدمت لنا نماذج إنسانية بتوابل مغايرة ومشاكسة.. كما أنها جعلت النص القصصي نصّاً لا يصنف بمعايير نقدية متجاوزة تضعه في نطاق "الكتابة النسائية".. إنها نصوص قصصية حاولت تكسير الكثير من "المعياريات القصصية".

11ـ العالم الافتراضي ـ الانترنيت ـ فك سلطة عدة منابر كانت تنصب نفسها وصية على الثقافة والإبداع في الوطن العربي. هل يمكن أن يكون هذا العالم بديلا عن الكتاب؟
قطعا لا.. لكنه أضاف أشياء كثيرة للمعرفة الإنسانية باعتباره تجليا من تجلياتها، كما أنه زحزح الكثير من السلط الكلاسيكية التي كادت تحيل الوسيط (الكتاب) إلى "حرز" سحري لا يصنعه إلا ساحر له ارتباطات غيبية مجهولة لدى الآخرين. لقد أصبحنا اليوم نُشَغِّلُ لغة جديدة ونوظف مصطلحات ومفاهيم مغايرة كالكاتب الرقمي والقصة الترابطية والنص الافتراضي... ودخلنا عالم التدوين الالكتروني الذي يتيح للكاتب عرض أفكاره دون رقابة وعلى مستوى واسع...
إن الرهان على هذا الوسيط متعدد، يتيح للمبدع فرصا إبداعية تخرجه من سطحية الكتابة (أقصد الورقة المسطحة) إلى تشعب الكتابة، فيصبح فعل الكتابة لديه مقرونا بإبداع آخر على الحامل التقني: النص الترابطي يختلف من حيث انسجامه ومنطقه الداخلي عن النص الورقي، كما أن "لعبة الأدب" تتغير كثيرا. مثلا، عندما أنجزت قصة "احتمالات" الترابطية، راهنت على الكثير من المعطيات: التعدد اللغوي، المستويات والفوارق المعرفية، بساطة الشكل وتعدد القضايا، التعدد التيمي، استغلال المنتوج الإلكتروني ذاته كالتحميل مثلا والوثائق المرفقة، الضحك الأسود، الاشتغال على ما هو معتاد لكن بطريقة تخييلية... وهذا راجع في نظري إلى أنواع المتلقي المفترض: الانترنيت شارع إلكتروني مفتوح لا نستطيع من خلاله التعرف على زائري (قراء) المواقع، وبالتالي فالرهان كان متعددا. فإذا أدركنا أن لكل مكانته، يصبح أي دفاع عن الكتاب الورقي مقابل الحط من قيمة الكتاب الإلكتروني (أو الوثيقة الإلكترونية عامة)، يعني جهل المدافع بأمور الأشياء.

12ـ برزت في المشهد القصصي المغربي منذ التسعينيات مجموعة من التجمعات في شكل نواد ومجموعات تعنى بالقصة. هل هذه التجمعات عامل إخصاب للتجربة القصصية المغربية؟
إن النوادي الأدبية بالمغرب ظاهرة قديمة نوعا ما، لكن الإطارات المتخصصة كان هامشها ضيق إلى حدود العقود الأخيرة، إذ بدأنا نلاحظ الاهتمام بالتخصص أكثر فأكثر، وهذا راجع إلى تزايد الوعي المتخصص وإدراك مزاياه التي لا تعني بشكل من الأشكال الانغلاق!
انطلاقا من تجربتي المتواضعة في المجال، والتي دَوَّنْتُ الكثير من يومياتها ومساراتها.. أعتقد أن المسألة لا زالت في حاجة إلى الكثير من الوعي بأهمية الاشتغال الجماعي الذي يتطلب المصداقية والشفافية ووضوح الرؤية... بعيدا عن منطق "العَرّاب" و"أنا الجمعية والجمعية أنا" و"أنا ومن بعدي الطوفان" و"الرجل الأول" و"الزعيم"... خصوصا في مجال الإبداع الذي يتأسس جوهره على عمق التجربة الفردية وفرادتها... وبالتالي، يصبح "التجمع الأدبي" ملجأ لذوات منعزلة تتبادل الاختلاف بشكل إنساني وحضاري... وأظن أن التجارب الصامدة لحد الآن، تجارب تتجاوز عقلية "منظم الحفلات الأدبية"!
أظن أننا في حاجة إلى إطارات تكرس الاختلاف أكثر مما تكرس التشابه، فصداقة الضد للضد أفضل من صداقة الشبيه للشبيه كما يقول سقراط.

13ـ كيف ترى التجربة القصصية في العالم العربي محيطه وخليجه؟
صراحة... لست أهلا لتقييم هذه التجربة... ما يصلنا منها قليل... فلا أستطيع إدراكها في كليتها وشموليتها، سواء من حيث المتون أم من حيث الدراسات النقدية. ما نتوصل به في المغرب، محكوم بعقلية الناشر والناقد العربي اللذان لا يلتفتان إلى المبدع إلا عندما يكبر.. ليست لديهما الاستراتيجية المُغَامِرَة التي تتأسس على الاستكشاف والتصدير.
إن قوة التجارب العالمية تكمن في قوة استراتيجيات نشرها التي تعتمد على عقلنة النشر وموضوعية النقد..
أدرك التجارب القصصية العربية عبر صفحات الجرائد التي تصل (وفي نسخها الالكترونية)، وعبر المواقع المتخصصة أو الثقافية عموما، إذ ساعدت بشكل كبير على ربط علاقات متعددة مع الكثير من المبدعين خصوصا الكتاب العرب الجدد الذين يعانون ظروفا ثقافية تكاد تكون موحدة: التبعية لـ"الرواد"؛ التنازل عن المواقف؛ الدخول في الاتفاقات السائدة؛ تعطيل الحاسة النقدية...
رغم تلك المثبطات، أستطيع أن أبدي ملاحظة مفادها أن قوة التجارب القصصية العربية في الأشخاص، فلا نستطيع الحديث عن مدرسة قصصية في بلد من البلدان العربية، أو عن مدرسة عربية أو اتجاه عربي في القصة اللهم إذا كنا منحازين!.. قد نتحدث عن مساهمة عربية في الاتجاهات والمدارس المكرسة سلفا (كأن نقول الرومانسية العربية أو الواقعية العربية...)، وهنا المشكل الحقيقي!
هناك تجارب مهمة في العراق وفي سوريا وفي اليمن مثلا... لكنها لا تصل.. شأنها شأن تجربتنا المغربية، التي أتحمس بموضوعية للمنجز القصصي الجديد منها.. وأَسْتَاءُ بموضوعية أيضا له.. لأنه لم يستطع أن يَعْبُرَ الحدود ما عدا بعض المحاولات الفردية التي يقوم بها الأشخاص لا المؤسسات، وهذا غير كاف.. إن تلك التجارب حاملة لخصوصيات جمالية تواكب حقيقة زمن القصة المغربية وحقيقة قصص الإنسان المغربي في هذا المكان من العالم العربي الذي لا يعرفه الكثير...
كلما مر الزمن وتعمقت تجربة القراءة والكتابة، أزداد قناعة بأن الكاتب أو المبدع لا يمكن فهمه بشكل مجزأ، يجب قراءته في كليته.

14ـ هل يمكن برأيك أن تكون الألفية القادمة ألفية القصة القصيرة؟
إن الحديث الاستشرافي عن القصة القصيرة، يجعلنا ندخل في نوع من القراءة العلمية التنبؤية التي تنطلق مما هو كائن لاستشراف ما هو ممكن.. وعليه، فالواقع القصصي المغربي، أبرز على المستوى الإبداعي طفرة قصصية كمية ونوعية، إلى درجة استمالت القصة الكثير ممن عهدناهم يكتبون في مجالات أخرى إلى نطاقها، وفي ذلك إغناء لها، ودليل على إمكانات الإبداع فيها، ومعالجة قضايا الإنسان من خلالها...
شخصيا، أومن بأن القصة القصيرة مجال مفتوح للمغامرة الفكرية والجمالية، لذلك أعمق إبداعي القصصي (المقرون بالتأمل) وأسير به في اتجاه المغامرة (من الأسطورة الذاتية إلى العقل الجمعي)، فالإبداع الذي لا يعكس الأسئلة الوجودية والمعرفية العميقة للإنسان لا يمكن أن نراهن عليه لحمل رهان ضخم كالكونية مثلا.. أرى أن الكتابة القصصية المصحوبة بضجيج كهذا، لا تعد أن تكون مجرد "فرقعات لغوية" تنتهي بمجرد انفجارها: ما معنى أن نكتب عن ما بعد الحداثة ونحن لم نعش الحداثة ولم نتمثلها كفكر وكممارسة؟! هل نستطيع أن نتأمل قليلا التجارب العالمية الناجحة، خصوصا المنفلتة من سطوة المركزيات كتجربة أمريكا اللاتينية؟ ما الذي جعلها متفوقة وعميقة؟ أظن عمقها الفكري والتصاقها بوجود الإنسان هناك، فهي ليست مجرد "ألعاب لغوية" و"استخطاطات سردية".. إن القصة فكرة صلبة متينة تتكون في دهن صاف مغامر.. فإذا راهنّا على القصة التي تتأسس على الأفكار، قد نكون في مستوى الرهان: وصول القصة المغربية إلى الآفاق البعيدة.
هذا الحوار يندرج ضمن سلسلة حوارات مع مبدعين مغاربة وعرب، أعتزم إصدارها في كتاب قريبا تحت العنوان ذاته.
عبد الهادي روضي شاعر وكاتب من الدار البيضاء أستاذ التعليم الثانوي الإعدادي نيابة طاطا.
صدر له: بعيدا قليلا - ديوان شعر- عن مطبعة آنفو برانت بفاس 2008 




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أكتب تعليقا مم تخاف؟