النزعة التحررية في قصائد الشاعر المغربي منير بولعيش
" لن أصدقك أيتها المدينة..." (1)
حميد ركاطة
لعل المثير في هذا الديوان هو استئثاره برصد حالة مدينة " طنجة " التي أضحت حبيبة تارة وأخرى جزء منبوذا من جغرافية وطن كبير فمستوى الحطاب انطلاقا من العتبة يضعها في مرتبة محاطبة لها علاقة حميمة ، لكنها انتهت بالإقرار بعدم تصديقها . لنتساءل لماذا تم تنزيل المدينة في مستوى مكانة المعشوقة ؟ وبالتالي ماهي المواقف التي اتخذها الشاعر منها ؟ وكيف تم رصد واقعها من خلال أشعاره ؟
طنجة بين وجهين وذاتين صورة لعملة واحدة I
في نص " حكمة" ص 7 نلمس الخطاب المقتطع من لحظة حوار بين شاعر وعشيقته التي كان يهمس لها بحكمة بليغة الدلالة قائلا " هذا العالم يقتسمه رجلان : مجرم جرب وغنيها " وهو همس على شاكلة بوح يجعل من الشعراء في مدينة البوغاز في مرتيه خاصة فهم بقدر ما حسروا الماديات في عالم تشوبه الفوضى فإنهم ربحوا حب الناس وعشق المدينة ، يقول الشاعر " لكن ثقي بذاكرتي / أنا المراهن / أبدا على مطر السياب / والعالم يقتسمه الرجلان" ص 9
منير بولعيش
إنها قصائد بقدر ما تخاطب الحبيبة تخاطب بالأساس المدينة التي قدمت بعد العتبة كبطاقة بريدية مفتوح صدرها كحيطان غرف ضاقت بالعديد من الصور والذكريات ، فهي جسد أرخ من خلاله لرفاق الحلم ، ومن خلال الحلم يسترجع بنوع من الحنين " نوستالجي" كل من عبروا بالقلب والمدينة وقد تركوا بصماتهم واضحة " محمد شكري / بول بولز / " وهو استرجاع فقط يتم استعماله لوقف نزيف الانتظار كأنه محاولة لاستعجال الحديث عن الحياة بدل الموت ، والحب بدل اللوعة ، والحزن يقول الشاعر مخاطبا عشيقته " فستانك القرمزي / : أهم حدث في هذا اليوم/ وضحكتك البيضاء نقطة ارتكاز هذه الغرفة / لذا دعك من الثرثرة / وصدقيني : جيل البيتنكس/ اندثر منذ عصور بائدة " ص 10
إن الرغبة في تحويل الحديث من المدينة نحو الحبيبة هي محاولة للتهرب ليس إلا من فضاء المدينة الموبوء ، ووجهها الزئبقي نحو ذات العشيقة التي تشكل بتواجدها قربه لحظة تاريخية أهم من الحنين إلى ألبوم الذكريات الذي يعمق المواجع ويخطف من اللحظة بريق الحب والجمال والرغبة . لذا فهو بقدر ما يفضح تلك الرغبة يعلن صراحة عن نواياه ورغباته يأمرها أن تحترم رغباته الصادقة يقول " كفي عن هذا الكلام المكرر / إنه يعمق وجعي / واحترمي صرخة الذئب / في جسدي " ص 11
فنص " نوستالجيا " بقدر ما يحيل في تناصه مع عمل سينمائي شعري ( لأندري تاركوفسكي ) هو دعوة إلى نبذ كل ما يكدر صفو الخصوصية واللحظات المقتطعة بعيدا عن وجع المدينة وألمها وذكرياتها الأليمة لأن التوق للجسد الأنثوي هو المرتكز والدافع نحو النسيان .
هذا الاستحضار نلمسه في نص " ريح الشرقي" ص 23 وهو يعري عن وجه طنجة البشع الذي يرفض النظر إليه مستحضرا وجه حبيبته التي تثير بداخله رغبة حد الجنون يرى فيها طنجة الجميلة الوديعة يقول " رياح الشرقي صرصر عاتية / لذا خل عنك فستان السهرة / واعقصي شعرك ذيل فرس / ....طنجة محفل مقيم للغبار وريح الشرقي "ص 24
لكن لماذا هذا التغييب المتعمد لملامح المدينة واستبداله بملاوح العشيقة ؟
لقد مارس الشاعر منير بولعيش لعبة الاستحضار هذه لخلق حميمة في الحوار ولمنح هالة خاصة فالأنثى كروح وذات وشخص يحمل من معاني الرقة والدلال ما يجعلها تكسر عنف الصورة الموازية حول المدينة إحداث نوع من التوازن بين المدينة والأنثى التي يرى من خلالها العالم ويتجسد هذا الطرح كذلك من خلال تشييده على ثنائية للمقارنة الساخرة في نص " لم أكن رائيا كما اليوم" ص 46 أو نص عولمة ض 15 أو نص تعاسة ص 12
فبقدر ما يشدنا في هذه النصوص نبرتها الساخرة والمحتجة نلمس مثلا في نص " لم أكن رائيا كما اليوم" تيها وسخطا بل رفضا واحتجاجا على واقع المدينة وهو احتجاج ممزوج بحسرة على ضياع موعد تاريخي " معرض 2012 " الذي تطمح إليه المدينة الغير مؤهلة بالمطلق لاستقباله كحدث دولي ، وبالفعل هذه الحسرة نابعة من عدم قدرتها وغياب كل إمكانيات التعامل مع الحدث بسبب بنيتها ومكوناتها المعقدة والتقليدية مع غياب بنيات تحتية كفيلة بجعلها في مستوى الحدث ، ولعل المفارقة الملتقطة بين تاريخ مدينة غارقة في الغيبيات ممتنة لتخلفها بمعتقدات أهلها من تبرك بالأولياء والأضرحة والزوايا يقول الشاعر " سيدي بوعراقية / يطوف بمبخرة الباروك / على رؤوس الفقراء" ص 46 مشهد يوازيه آخر مستوحى من الثورة الفرنسية كالحديث عن الاشتراكية الفوضوية البرودونية وصراعات فرنسا الثورة من خلال الاشارة إلى كمونة باريس "
فالتحول الذي يتحدث عنه الشاعر في أوربا أو في فرنسا تحديدا باريس يجد جدوره وتقاليده التي أرست دعائم الديموقراطيات الحديثة وروح اقتصاد حر مبني على قوة السوق وروح المبادرة الفردية في حين كان استحضار حاضر طنجة وهي على أبواب السوق الحرة كأنها امرأة عارية من كل قيمة وقوة لمسايرة الحدث يقول الشاعر " طنجة تدخل العالم الحر من الأبواب الخلفية وتخسر 2012 / السوق الداخلي يتنور على صفحات الويب ونوافذ الماسنجر " ص 47
إن هذه السخرية السوداء لا تستثني الثقافة التي بدت من خلال القصيدة أكثر اختلالا وضعفا يقول الشاعر " محمد شكري / يلملم فتاة الخبز الحافي / من مطبخ الماكدونالد" ص 47
الشاعر ضمير الأمة والحارس لقيمها والمعارض لاختلالات أوضاعها والشاهد على جنونها ، هكذا كانت أشعار المرحوم منير بولعيش تعبر من خلال التقاطها الساخر وتعابيرها الجامحة عن مفارقات السياسة العالمية بين مدينة احتضنت زمن الأخطاء بفظاعاته ومرارته ومواجعه ، وهي تحاول الخروج من شرنقة الحلم نحو واقع جديد تتحقق فيه كرامة الأفراد ، فطنجة بين زمن شكري باعتبارها منطقة دولية متوزعة السيادة والسلطات وبين زمن آخر وهي سيدة قرارتها تنعم بالسيادة باعتبارها رقعة من دولة مستقلة هذا الوضع الأخير يجعلها أضعف في نظر الشاعر وهو يرمز إلى مدينة قوية كنيويورك بؤرة العولمة الجارف والتي تحاول الاطباق على كل مدن العالم وهنا نتساءل عن الفرق بين طنجة كمنطقة تقسم سلطاتها دول استعمارية عديدة وقوى عالمية وبين طنجة التي تريد الدخول إلى السوق الحرة طواعية دون امكانيات أو بنيات تحتية مناسبة وسوق داخلية مهيأة ؟
فإذا كان الحديث موجها ككل مرة لامرأة فإننا ندرك أنه حديث موجه في الواقع لذات الشاعر وبنات أفكاره وانتقاده بقاء قراراته دوما مسلوبة بالقوة .
فومضات منير بولعيش بقدر ما كانت بسخريتها تعري زيف الاعتقادات كانت في الآن ذاته تبرز النية المغرضة للعدي من المندسين والمخبرين الأجانب الذين وإن نقلوا معالم الحياة المغربية ( المخزني الرسمي) في أزمنة ما من حلال رصدها في أعمالهم وكتاباتهم أو لوحاتهم كما هو الأمر بالنسبة لدولاكروا فإنهم شكلوا في واقع الأمر جسرا من خلاله تم تسهيل اختراق المجتمع المغربي من خلال دراسة عقلية أفراده وثقافتهم تهيئا للسيطرة على البلاد واحتلاله كما حدث سنة 1912 من هنا يتساءل الشاعر حول دولاكروا الذي جاء يبحث عن الضوء قائلا " دولاكروا / أيها التعس / أجئت تبحث عن الضوء / في مدينة / كل ما فيها / يهدد بالسواد " ص 12
طنجة التاريخ وطنجة الواقع II
في نص " هيراقليس " ص 28 يختصر المرحوم منير بولعيش تاريخ طنجة من المتن الأسطوري إلى الواقع الحاضر ولعل مغارة هرقل بقدر ما هي معلمة من معالم طنجة أو " طنجيس" هي مجرد مكان للفضوليين من السياح الأجانب الذين يبحثون عن طيف أسطورة مدينة من خلال بقايا أو من خلال المجد الأفل الذي كرسته الخرافة ، فالمدينة التي لم يتغير حال افرادها الغارقين في اللهو والتجاهل لكل ما يحدث أو حدث منذ فجر التاريخ هذا الموقف نابع حسب الشاعر بكون العالم يغير سلمه الاجتماعي (الطبقي ) والمدينة من تلك المغارة تحلم بتغيير العالم "
فالمدينة عبرت من خلال سكانها أو الاهتمام بما يحدث تعبيرا عن نوع من الرفض لأوضاعها المتردية في حين تظل نظرة الآخرين إليها نابعة من تطفل وعشق اتخذ له كمدخل بوابة الخرافات والأساطير دون وعي لدا يناشد الشاعر هراقليس قائلا " طنجيس : منفى كبير / وهذا البحر حياته / فلتسترح من الالياذة هيراقليس ولنلعب الورق " ص 28
في حين تتجلى طنجة الواقع في كونها مدينة للعبور ونقطة انطلاق نحو المجهول في ذات الآن بعدما كانت للمسافرين والرحالة والعابرين والمستكشفين في نص " غرق" ص16 بقدر ما نقف على حجم ظاهرة الهجرة السرية يشدنا بشكل جنائزي الموت الذي أضحى العنوان الوحيد الواشم لذاكرة المدينة وجسدها هذا الموت الذي تحول بالقوة من مفهوم الرحلة إلى مفهوم المغامرة من البحث عن سر المتعة إلى البحث عن أسرار الموت الكامنة في لعنة الرحيل ، طنجة الماضي الذي اقترنت باسم أعظم رحالة في تاريخ المغرب "ابن بطوطة " والمشكل لجزء من ذاكرتها وبحارها وشواطئها سوف يتم تأبينه بشكل قدحي لاقترانه بلعنة الموت والرحيل نحو المجهول من الانطلاق نحو الاشراقات المخبئة في قلب الجنون إلى جنون الحتف الكامن في لوعة الرحيل فاسم ابن بطوطة هو العنوان الجديد اليوم المنقوش على ذراع المهاجر السري حسب الشاعر الذي يقول " أنا الوارث الأخير / لسر الرحيل / الوحيد / من يحفر على ذراعه / هذا الاسم : ابن بطوطة / لكني كنت أغرق / في الضفة الأخرى " ص 17
لقد لمسنا في النص إشارة إلى مؤلف ابن بطوطة " تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار " كإشارة بقدر ما تحمل في طياتها جمال الاكتشاف والرحلة وفوائدها ولذة الحكي الحريري وسحره يصفعنا في الواقع عامل "الموت "الغرق" بفظاعته ولعنة الرحيل النابع من رغبة ملحة في الهرب والانعتاق من وضع ينذر بالانفجار بحثا عن الحلم الذي لا يدرك كنهه وتأويله المهاجر السري إلا في قاع اليم .
فطنجة الواقع هي بؤرة تفوح منها رائحة المخدرات والموت كما هو الأمر كذلك في" شهادة إثبات" ص 21 وكأن الشاعر كان يستعجل رحيله ، وهو يكتب شهادة إتباث تبرئته مما أضحت تقترفه طنجة أو ما أضحى عليه وضعها كمدينة للحداد .
إنها صرخة مدوية علت مجاجلة في كبد سماء القصيد يقول الشاعر " لا دخل لي بهذا الدم / لا شأن لي بهذا الجنون / أنا كحمامة / نوح / ضائع منذ سيول / فوق سواحل العرب / أرقب برق الخلاص وأضجر هذا السؤال :/ طنجة أمن هنا الطين جاء / أم من هنا ابتدأ الطوفان ؟" ص 22
النزعة التحررية في قصائد منير بولعيش III
1)الهامش
لقد شكل الهامش في مدينة كطنجة أحد مفاتيحها الحقيقية فالمهمشون من كانوا يدركون سر المدينة، هم من شاكس الحقيقة ، هم من كان يمتلك مفتاح وهم يقدمون على الموت يقول الشاعر " الهبي ، الذي وجد مشنوقا على باب البحر / وحده رأى المدينة / كما لم يرها أحد من قبل / وحده من رمى بالأبدية إلى بحر أشقار المتلاطم"(...) الهبي / الذي وجد مشنوقا على بوابة / المدينة وحده كان يملك مفتاح المدينة / لكن لم يصدقه أحدا " ص 41
صورة المهمش تتجلى في نص " خروب المدينة" ص 42 باعتباره العارف بخفايا وأسرار المدينة وأهلها ودسائسهم ومكرهم لأنهم حسب الشاعر " هو الذي ينقد هذا ( الخاص) من شدق ذلك ( العام) / ويعرف كيف " خيط دروب العطالة بخيط أريان " ص 42
هذا المهمش والبسيط هو من يعرف ويقرأ نوايا من عبر المدينة وجاء مرتديا أقنعة عديدة تبرز وجوهه الأخرى وهي تخفي وجهه الحقيقي الذي يكشف عن نواياه الحقيقية رعبة في " الوصول إلى حقوق القنب الهندي ، في كتامة / " ص 44 فالأدري بخروب المدينة هو المضارب ، تاجر المخدرات ، والمحتكر والمسيطر على روحها وقوتها الاقتصادية أمر يبرزه الشاعر بتورط الكل ويضعهم في قفص الاتهام لأنه حسب الشاعر هو الذي أبرم عقودا احتكارية مع شوارع جانبية / غير مسفلتة / وراح يلملم قصائده المطروحة فوقها " ص 45 فلماذا لا يكون الأدري بخروب البلاد ؟
إن السؤال الذي يطرحه نفسه بقوة هو هل يمكن اعتبار طنجة مدينة للكراهية بامتياز ؟ هل يمكن اعتبار تناقضاتها وازدواجية صورها واقعا لا مفر منه ؟
في نص "طنجا فوبيا " ص 53 نلمس هذا الطرح الذي يبرز الموقف السلبي جدا من المدينة وأوضاعها فهي مدينة تتعايش فيه كل المتناقضات بامتياز .ففي الوقت الذي يتحدث الشاعر عن معتقلي الرأي في المغرب يشير إلى كون أكبر قوة عظمى في العالم والتي تهفوا قلوب الكثيرين للرحيل إلى أكبر مدنها كنيويورك من خلال الفوز في قرعة الهجرة هي دولة " تختزل مفهوم الحرية في تمثال في حين يرصد بسخرية فضاءات محلية وأشخاص ( السوق الداخلي / والسوق البراني / البحر الأبيض المتوسط / المحيط الأطلسي / معجم موليير / معجم سرفانتس / محمد شكري / بول بولز / ، وهي إشارات واضحة إلى نوع من الثنائيات التي تحكم بخصوصيتها المدينة بل أثرت وتؤثر في مجريات حياتها كمكونات طبيعية أو إنسية أو ذاكرة ولغة أو فضاءات ومعالم جغرافية لكن حسب الشاعر يغيب فيها أمر أساسي "الحرية " مما يغرق المدينة في الكراهية والهذيان .
لقد تم استحضار صورة أخرى عن طنجة من خلال التناص الشعري " نص المطعم البلدي " كدلالة على النتنة وسوء الخدمات ، مما يجعلنا نقر أن هناك عوامل تظافرت لتجعل من طنجة مجالا لتعايش المتناقضات جنبا إلى جنب ، تعايش وإن كان يبرز التعدد في ظاهره فإنه في الخفاء يبرز نوعا من الكراهية المطلقة التي لا يمكن تجاوزها سوى بالتصنع والتجاهل يقول الشاعر " ماذا ستصنع ظهير ة الأحد ؟ / سوى أن تستوي على عرش / القصيد / وأن تتقمص دور الشاعر / وهو يهش / الذباب / في المطعم البلدي " ص 55
2) المرأة
إلى جانب صورة المهمش تحضر المرأة في قصائد منير بولعيش تارة كأنثى وأخرى كمدينة ، حضور يتداخل أحيانا إلى الحد الذي لا نميز فيه أثناء الحطاب بينهما ، فالأنثى شغلت حيزا جد مهم داخل هذا الديوان وقد برزت كعشيقة كما الأمر في نص " حكمة" ص 7 وقد خطف فستانها القرمزي لبه وولد لديه رغبة جنسية عارمة إلى حد الاعلان عنها ومطالبتها باحترام نواياه وصرخة الذئب في جسده في حين تبدو في نص " الرجيم" ص 13 في صورة حواء من خلال استحضار المتناص القرآني لمفهوم الغواية ومفعوله أمر سيدفعه إلى إبعاد التهمة عن ذاته كشاعر من طرف أنثاه يقول " أنت في الواقع لست الملاك الذي / يحق له أن يوبخ / الأبالسة / وأنا لست ذلك الرجيم / من تشتمين ؟ " ص 14
في حين تحضر الأنثى في نص " الرافضة " ص 25 وهي قصيدة مهداة إلى " وئام" في منفاها ، فهذه الأنثى بقدر ما أحالت من خلال وضعها على كونها من سلالة الثوار برفضها لكل أشكال العنف والبغي يسترجع من خلالها تاريخ تيار فني ولأدبي ونمط حياة لفئة رفضت التنميط والمساومة فعاشت حياتها بحرية مطلقة، وتجدر الاشارة أن الشاعر منير بولعيش من خلال هذه القصيدة يحيلنا على المحاولات الأولى لحركات تحرر المرأة في العالم ومنها المرأة الأوروبية باعتبارها نوعا اجتماعيا يكرس تقاليد حقوقية وإنسانية ويكفل حقوقا مدنية ضمن نسغ الحياة الجديدة ، فتحرر المرأة ومساواتها هو ما دفعها إلى التمرد وهي حسب الشاعر " تسكن حلقات الماريخزانا / تغني مع البيتلز وتخرج إ‘لى ساحة / الأمم في مظاهرات / ...ضذ العولمة ، وحرب العراق " ص 25 وهي إشارات إلى الفعل الواقعي والجاد للحركات النسائية بالعالم وهي بتجاوز قضيتها وحقوقها أضحت تطالب بحقوق الشعوب ضمن مد حقق استمرارية وقد ترسخت جذوره مع جيل الستينيات
فالرفض ضمن القصيدة هو نزوع نحو التحرر المستمر بروح الأنثى وجسدها وهي تبحث عن إنسانيتها مخلصة إياها من كل أشكال السيطرة فالمرأة بقدر ما تحضر في صورها المتعدد يأبى الشاعر إلا أن يستحضر نماذجها الأكثر قهرا كذلك كما هو الأمر في نص " قبلة سوداء " ص 50 " حيث يرصدها كنموذج هامشي بامتياز رفقة أ أخريات : العاهرة / الهيبي / المرضى / الخادمات / موقف البغي المقدس / بورديل المدينة / الراغبات في الهجرة ....، ما يجعل طنجة المدينة بؤرة للمتناقضات يقول الشاعر " لفافة باردة / والطريق إلى الحقيقة لا يستبح الفج السالك إلى قاع المدينة / المفخخ بالمواعيد واليقين / ولا الطريق السريع / بين فخذي / امرأة تبهر الدنيا بخصيتين نحاسيتين / وشعر مستعار " ص 50
3) القصيدة
إلى جانب الهامش والمرأة تحضر كذلك القصيدة ، فاللافت للانتباه في قصائد ديوان لن أصدقك أيتها المدينة هو امتزاج الشعر بالسرد من خلال استحضار الحكاية التي تختتم ببدايتها في إطار نوع من القلب المتعمد ، فهل يمكن اعتبار هذا النص " حكاية " مادام الشاعر نفسه يتعمد عدم النطق ببدئها " حكاية الأميرة التي لا تبدأ ب .." ص 56 " كان يا مكان " الجملة التي تشكل خاتمة النص وليس بدايته حكايته داخل القصيدة حكاية ؟ هل لهذا القلب ما يعبر عن كون الحكاية نهاية للقصيدة ؟ أم أن القصيدة هي مستهل الحكي والراصدة لأوجاع الشاعر ؟
إن هذا الاهداء إلى وئام " يؤكد مرة أخرى مدى توق الشاعر إلى سحر هذه المرأة الثائرة التي كرست حياتها خدمة لقضايا إنسانية فالمرأة في نظر منير بولعيش قصيدة متحررة مساندة لكل قضايا التحرر في العالم وأفكارها تقتطع من شعرية الواقع وواقعية الشعراء والمناضلين " بابلو نيرودا / كارلوجولياني / راشيل كوري / سالومي / التي تتخذ صورة وئام فهي بقدر ما مثلت كالأخريات نموذجا للمهمشات في الغربة والمتحررات والرافضات لكل أنواع القيود شكلت سارية الحكي من خلال القصيدة والمحور الذي نسجت حوله معالم النص الشعري يقول الشاعر " لم أحك لك بعد عن سالو... عن الشفاه المحروقة بتبغ (جيتان) عن الشعارات المرفوعة في مظاهرات الأناركيين في برشلونة ، عن وقفات الاحتجاج مع الحركات النسوية ..عن الكوكب الغاضب عن المنظومة الشمسية ، عن لفائف الماريخوانا في مقهى الحافة " ص 59
إنها القصيدة التي ستخرج إلى شوارع طنجة بل إلى شريان التاريخ والتي هي صورة طبق الأصل لصاحبها يقول " القصيدة التي خرجت إلى شارع باستور / كم تشبهني " ص 60 القصيدة التي خرجت إلى بار البريد عافتني (...) القصيدة التي خرجت إلى البولفار / لم تجد امرأة / تتغزل بها / فارتمت في حضني / ونامت " ص 61
إنها في الواقع قصائد تواقة إلى الحرية تسكن صاحبها الذي رحل وهو يضمها بين حناياه بحثا عن خلاص وهو أمر تكرر في قصائده ك" الرجيم " ص 17 حيث يقول " رغم ان قصائدي لا تبارك سوى المنشقين / ومن تخطى الأسيجة / لنبض جديد "
قصائد المكان / قصائد إعادة الاعتبار للمنسي IV
بقدر ما نلمس توشيح صدر القصائد بمقتطفات من أسماء وأماكن وأعلام ، تتجسد تلك البصمة الواشمة للتاريخ العالمي ولذاكرته الأبدية " إبن بطوطة / محمد شكري / بول بولز / ألن جسنبرغ / دولاكروا / هوغو شافيز / دون كيخوتي / شلو / البتلز / هيراقليس / ألهة / ألهة الأولمب ، القراصنة ،/ الغجر / الهيب يين / البيتينكس / نيكانوربارا/ سيدي المصمودي / إبن زنباع / برودون ، سيدي بوعراقية / علي باي / موليير / سرفانتس / كارلو جولياني/ شكري / وئام / سالومي / راشيل كوري / العربي اليعقوبي / نوح المهاجر السري /، بالإضافة إلى رصد للعديد من الفضاءات المحلية والعالمية:
madame porte / petit berlin / teatro cerventes / tajazL/ paris café / /
مقهى الحافة / زنقة الشياطين / نيويورك / الضفة الخرى / المسرح القديم / سور المعكازين / وادي اليهود / بار البريد / رصيف السفن/ القنصلية الاسبانية /
/ باب البحر / بحر أشقار / رياض المدينة / حدائق المندوبية / براغ / كتامة / باريس / السوق الداخلي / قاع المدينة / رأس المصلى / موقف الحافلة / موقف الخادمات / موقف البغي / بورديل المدينة / نيويورك / السوق البراني / البحر المتوسط / المحيط الأطلسي / شارع باستور / ساحة الأمم / شارع الحرية ...
كما تم استحضار أبطال اسطورين وروائيين واسماء كتاب : هيراقليس، دون كيخوتي ، سرفانتس ، ولعل التناص بقدر ما استهدف من خلال مقولة "هوغو تشافيز " استحضار بطل رواية للأستشهاد ، كان يروم إبراز مفارقة ظل الجميع يعتقدها خطأ وجبنا وغباء ، لبطل من ورق ، ولكن اتبثت العديد من الدراسات الحديثة ان ما كتبه سرفانتس كان سابقا بكثير لعصره ولمجايليه وأفكاره التي حملت على محمل الهزل بدل الجد يقول الشاعر نقلا عن هوغو تشافيز " سنقرأ جميعا دون كيخوت لنتغذى أكثر من روح مكافح أراد ‘حقاق الحق ، وتصحيح العالم ، غننا جميعا أتباع دون كيخوت إلى حد ما " ص 19 وهو ما جعل الشاعر يثور على وضع رتيب لمحاولة إعادة الاعتبار لدون كيخوت يقول مخاطبا حبيبته " سأربك كل حسابات السهرة / وأخرج كبطل ضدي / ولأقاتل / ضد أعداد في مستواي / أنت لا تذكرين شيئا / عن ملحمة مجد بهذا الترف / لذا : باركي رفضي هذا المساء ( ...) قرب ذكرى الدون كيخوت / وشدي معي راية القيادة / كيما أوقف هذا الجنون : طواحين الدم " ص 20
فالمكان بقدر ما نظر إليه من زاوية الكراهية كان كذلك باعثا على رفض أسطورته المغرقة في الغموض وعدم الاعتراف يقول " طنجيس : منفى كبير / وهذا البحر جبانه / فلتسترح من الأليادة هيراقليس " ص 28 وكذلك في نص " ذكرى" ص 31 وهو يقلب موازين معادلة إلى معادلة الخيانة وهو يفتح قوسا إزالة هالة القداسة عن واد اليهود بكون المدينة ظلت عبر التاريخ مجرد ذكرى فبالرغم من كون الواد مقدسا هو فقط " واد يشرب منه الكل / ويخونه الكل " ص 31
هكذا تفتح قصائد منير بولعيش في الباب على مصراعيه للنظر بعمق إلى واقع طنجة كمدينة / كحبيبة / كأسطورة / كمكان للمنبوذين ، للمبدعين ، للكراهية ، وللحب ، طنجة بلغة الواحد المتعدد في نفس الآن ، تعدد يبرز حب الشاعر وجنونه في ذات الآن .
لقد استطاعت قصائد منير بولعيش أن تخلد طنجة ورموزها بصدق وهي تنقل صور اليومي حافلة بالعنف والبؤس ، والأمل / طنجة كسجن مفتوح على بحار الموت والهجرة السرية ، طنجة المحاطة بحقول القنب الهندي ، طنجة الفوارق الطبقية ، طنجة كمدينة للدعارة ، طنجة مدينة تحبو نحو زمن عولمة بدون بنيات ومؤهلات كفيلة بجعلها في مستوى الحدث ، طنجة / طنجيس / طنجا فوبيا /...فهل يمكننا تصديقها وقد كذبها الشاعر ؟ لن أصدقك أيتها المدينة ...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ) المغربي منير بولعيش " لن أصدقك أيتها المدينة..." شعر سليكي إخوان طنجة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أكتب تعليقا مم تخاف؟