المهلـــــــوســــــون الـــــــجدد

الجمعة، 17 فبراير 2012

النص المشوه: البرتقال والباكور- حين ينظر النص إلى نفسه في غير مرآته



النص المشوه: البرتقال والباكور
حين ينظر النص إلى نفسه في غير مرآته.

يقول عبد الفتاح كليطو في معرض حديثه عن الكتابة والتناسخ في كتاب يحمل العنوان نفسه: " إن تشويه نص ما يقترب من وجهة نظر معينة من عملية قتل، فلا تكمن الصعوبة في ارتكاب الجريمة وإنما في محو آثارها"1
إن الذين يكتبون نصوصا عن نصوص سبق وكانت تيمتها الأساسية هي نصوص أخرى يدخلون في لعبة حلزونية لا يقدر جلهم جسامتها، فيكونون كمن يسكب الماء في الماء، إنه لعب طفولي في الغالب الأعم لإرضاء نزوات قارئ لم ينضج بعد ليصبح كاتبا. وهو في غمرة انبهاره بالآخرين يكتب عنهم وبهم وفيهم، موهما نفسه وقارئه المفترض أنه ظليع في التناص والميتناص وأنه يعرف من أين يستلهم الإبداع.
لقد أصبحت النصوص مطية من لا مطية له، وتحولت اللغة الميتانصية إلى مجرد حذلقة أدبية ونقدية.
سنجد أن معظم النصوص الرائعة التي تتحول إلى موضوع لنصوص أخرى أو منوال تتعرض لعملية تشويه من طرف مجموعة من الكتاب وتتعدد عوامل هذه الكتابة العقيمة:
1-      التجريب غير الممنهج، فبعض الكتاب يقومون بلعبة غير محسوبة العواقب حين يحشون كتاباتهم بلغة ميتانصية وينفخونها حتى تصبح التناصات المقحمات هي عمدة العمل، ويتحول المجهود الذهني والعضلي إلى مسخ سميه ما شئت إلا "الأدب".
2-      الفراغ المطبق، وغياب قضايا ينشد المؤلف الانتصار لها أو الانقضاض عليها، فيكتب القاص عن القصة،  والشاعر عن الشعر والروائي عن الرواية، مستعيضا عن الواقع الحقيقي بواقع مكتوب. إنها نزعة تشييئية تهيمن على الكاتب فتجعله بلا ضمير وبلا مواقف، يستعير الأسلوب والموقف من كاتب قبله.
3-      عملقة النص عند البعض لا يمكن أن تكون إلا باستحضار أسماء لامعة فنكون إزاء  فسيفساء نصوصية "بناشي" هو نوع من الاستقواء بالآخر، وكان من الممكن تقبل الأمر لو استحضر هؤلاء الكتاب النصوص الأخرى وكتابها بنوع من الندية والثقة بالذات والاعتداد بها وفق فلسفة عميقة تتغيى جعل الكتابة ورشا إبداعيا مفتوحا، ونصا واحدا متكاملا لا يقتات فيه النص الحاضن على النص المحتضَن.
4-      الفقر الإبداعي وضحالة الكتابة تدفع ببعض الأقلام إلى تسلق أكتاف العمالقة وركوب أمواج عالية للوصول بسرعة، وعادة ما يغلف هؤلاء المدعون مساعيهم غير النبيلة بمصطلحات فضفاضة، ولا يخجلون من  ادعاء الأبوة والبنوة، وحتى التزاوج، هذا في الوقت الذي كان ينبغي تطليق النصوص المنبهَر بها بالثلاثة وإعلان العقوق للآباء، حتى يتسنى للمبدع أن يجد حريته وخصوصيته وفرادته.
سأقدم هنا مثالا لنص مشوه يقوم على أنقاض نص أصيل الإبداع، حتى أن النص المزيف باقتفائه للنص الحقيقي ظهر كامتداد زائد وطفيلي.

يمكن وضع قصة " أطفال بلد الخير"2 لمحمد زفزاف وقصة " السوق اليومي"3 لهشام حراك في مسابقة يطلب فيها من المبتدئين في كتابة القصة تعداد أوجه الاختلاف والاتفاق. لقد كان كليطو محقا حين قال "لا تكمن الصعوبة في ارتكاب الجريمة وإنما في محو آثارها" وها هي الآثار دالة باليقين الدامغ على أن حراك كتب على منوال زفزاف، مقتفيا أثره فكرة فكرة، كلمة كلمة:

كتب زفزاف في قصة " أطفال بلد الخير"
كتب حراك في قصة "السوق اليومي"
- وصف عام للمشهد: ..خلف الحي الشعبي وأمام الحي الآخر، وسط الفيلات التي تنتشر عن اليمين واليسار، تمتد الساحة طويلة متربة محفرة.. (المشهد يؤدي إلى السوق)ص9
- وصف عام للمشهد:.. الشارع الممتد من المسجد الكبير إلى حدود المحطة الطرقية به زحام شديد.. البشر غزير كالنمل عند موسم لم الحبوب.. (المشهد يؤدي إلى السوق)ص15
- قالت الضاوية وهي مكومة  أمام ربوة من البرتقال.. ص9
- خالتي حليمة مكورة أمام بضاعتها مثل دلاعة.. ص15
- تنادي على سلعتها: ها الخير زيدوا ها الخير ص9
- تنادي: - ها الخير.. ها الكرم.. ها الباكور ص16
- ذق أسيدي. هذا هو العسل الحر(..) يتناول الرجل النصف الثاني من البرتقالة... ص10
- تقسم باكورة إلى نصفين.. تمد زبونا بنصف وتحتفظ لنفسها بالثاني يلتهم الزبون النصف الثاني بلذة. ص16
-.. المشترين كانوا يمرون بقفافهم وسلالهم ملقين نظرة على هذا لخير.مترددين في الشراء بعد أن يسألوا عن الثمن، ثم ينصرفوا ليسألوا عن ثمن آخر.. ص9
- المساومة: يطلب منها أن تزن كيلوغرامين بعد مفاوضات طويلة وعسيرة حول الثمن. ص16
- إياك أن يكون ميزانك مغشوشا هل الكيلو هو أربع برتقالات؟ ص 11
- يقول زبون: ألالة.. الميزان ديالك ماشي هو هذاك  ص16
- ثم مد يده إلى الكومة وتناول برتقالة أخرى وأضافها إلى البرتقالات الأربع. ص 11
- يتناول باكورتين من الكومة ويضيفهما إلى ما بقفته. ص16
جوع الأطفال
جوع الشمكار (الطفل)
- تقف الضاوية لتزن كيلوغراما أو كيلوغرامين من البرتقال. ص 9
- كلما أرادت أن تزن كيلوغراما أو كيلوغرامين من الباكور رفعت حبلا يشد بكلا طرفي الميزان. ص16
- الأطفال يفكرون في سرقة البرتقال. ص14
مصطفى يريد أخذ الباكورة قوة، تضربه حليمة.. ص18
- الضاوية تطاردها الشرطة وتترك برتقالات. ص14
- حليمة تقبض عليها الشرطة. ص18
- جرى الأطفال الثلاثة وألقوا بأنفسهم فوق البرتقالات المتبقية في الساحة. أخذوا يلتهمون بنهم. ص14
- يأتي الشمكار(..) يتبعه أطفال صغار.. يشرعون في التسابق على ما بالكومة من باكور.. ص18

هل تترقرق روح زفزاف في ثنايا بعض قصص مجموعة السوق؟  إن تعبير "تترقرق" الذي استعمله أحمد بوزفور تعبير مهادن، رغم أن صراحة السي احمد تبدت أكثر حين قال مخاطبا حراك: " أجد واقعيتك أشد قتامة من واقعية زفزاف، الواقع هو عند كليكما، ولكن التعبير عنده يختلف قليلا.. زفزاف " يدرح" قتامة التعبير بشيء من السخرية الباسمة تبعده عن الاديولوجيا، وأنت مر حتى عندما تسخر."4 ص12
إنها محاكاة فاشلة ومؤلفها عجز أن يكتم صوت زفزاف ليُسمع صوته، وما وضع شاهد في مقدمة قصة السوق اليومي يتضمن العرفان والجميل لمحمد زفزاف إلا علامة على المشوِّه الذي يكشف عن تشويهه. أهي سذاجة أم مهارة ملتوية؟؟
الذين يكتبون على غرار، لديهم حجج جاهزة دائما، فالنصوص ملك مشاع يعيثون فيها فسادا باسم التناص والإلهام والاستلهام والتجريب وهلم جرا..

الأصل في الكتابة الميتانصية هو الإعلاء من قيمة النص، وهو ما يسمح بتقديم قيمة اعتبارية لنصوص بعينها كانت محور نصوص أخرى أفلحت في جعل الكتابة مشروعا جماعيا وورشا إبداعيا واحدا، وإنني لأخال أصحاب بعض النصوص يبتسمون على أسرتهم أو في قبورهم وهم يرون عملا أدبيا يواصل نضالهم الإبداعي من أجل تحسين الوضع الإنساني والرقي بأحاسيس الناس وإيقاظ ضمائرهم.، لكنني أيضا أكاد  أسمع عذاباتهم وهم يُحشرون ويُقحمون كجوكيرات لإعطاء الشرعية لنصوص رديئة وباهتة.

شكيب أريج

هوامش:
1-      عبد الفتاح كليطو- الكتابة والتناسخ- ترجمة: عبد السلام بنعبد العالي- دار توبقال للنشر- الطبعة الثانية 2008- ص35
2-      أطفال بلد الخير هي القصة الأولى في مجموعة العربة لمحمد زفزاف- منشورات عكاظ- ط 1993
3-      السوق اليومي – هشام حراك-  الطبعة الأولى: الهلال العربية للطباعة والنشر: الرباط: 1998. ص15
4-      السوق اليومي- ص11- ص12

هناك تعليق واحد:

  1. استمتعت واستفدت من القراءة وفيها وبها بوركت افكارك مشكور

    ردحذف

أكتب تعليقا مم تخاف؟